محمد الحرز
هناك جملة من المقولات التي جاءت على صيغة أسئلة استفهامية تمس مشهدنا الثقافي والأدبي, منها السؤال التالي الذي طرحه عليّ أحد الكتاب. يقال بأن الكاتب السعودي في زمن الرواية بحاجة ماسة إلى إعادة الثقة له بما يكتب من فنون قولية أخرى. ما رأيك ؟! لا أعلم ما وجه العلاقة في السؤال بين الكاتب السعودي من جهة , وبين زمن الرواية من جهة أخرى. إلا إذا افترضنا أن المقصود بالكاتب هنا يشير بالدرجة الأولى للمبدع الذي يتخذ من الأنواع الأدبية والفنية كالشعر والمسرح والتصوير والرسم والسينما أشكالا تعبيرية ضد هيمنة وتسلط النوع الروائي حتى قيل إننا نعيش زمن الرواية. هذا ما يوحي به السؤال الذي يربط بين الانحسار الذي يصل في بعض الأحيان حد الأفول لهذه الأنواع الأدبية, وبين هيمنة الرواية , وسطوع نجمها باعتبارها الشكل التعبيري الإبداعي الطاغي على ثقافة شعوب العالم. بالتأكيد هناك أزمة في الكتابة الروائية تتمثل مظاهرها في استسهال الكتابة الروائية نفسها, حتى غدا مشهدنا الثقافي من أكثر المشاهد العربية في الإنتاج الروائي , في الآونة الأخيرة. لكن هذا لا يعني- من جهة أخرى- أن الشعراء على سبيل المثال يحتاجون إلى إعادة ثقة بسبب الآثار السلبية لهذه المظاهر, وتداعياتها على نفسية المبدع. دائما كان الصراع بين الأنواع الأدبية هو السمة الغالبة على التاريخ الأدبي كما يشير إلى ذلك جان كوهن. لذلك أزمة الثقة لو افترضنا وجودها عند «الكاتب» السعودي, فأظن الأسباب تتجاوز أزمة الرواية إلى ما هو أشمل وأوسع , ترتبط بالأساس بموقف المجتمع والفرد والثقافة والسلطة من الأدب نفسه كفكرة وتاريخ. والبحث في هذا الموقف هو خارج مجال السؤال.وهناك أيضا سؤال آخر هو:يقال إن توجه النقاد إلى النظريات النقدية وترجمة المفاهيم والمصطلحات واشتغالهم بالمشاريع النقدية, كل ذلك على حساب مراقبة وتتبع تطور النصوص الشعرية المحلية. ما رأيك؟ لا هذا ولا ذاك. المشاريع النقدية عادة ما ترتبط في الخطاب الغربي- على سبيل المثال- في جانبها التطبيقي على تناول المنجز الإبداعي بمختلف أنواعه, بل في أحيان كثيرة المنجز نفسه يقود أصحاب المشاريع إلى نظريات أدبية وفكرية وفلسفية ترتكز على قراءة واعية لبعض نصوص تراثية أو معاصرة, كما هو الحال مع نصوص نيتشه وغوته في علاقتها بالفلسفة الألمانية المثالية. وهكذا يمكن الاستدلال على طبيعة هذا الارتكاز , في مواضع مختلفة من علاقة هذه المشاريع بالنصوص. هذا بالنسبة لي مدخل مهم لفهم طبيعة المشاريع النقدية إذا ما حاولنا أن ننظر من خلالها إلى مشهدنا النقدي. هذا الفهم يفضي بي إلى حقيقة مفادها أننا لم ننجز مشاريع نقدية, على اعتبار أن مفهوم النقد هنا يتجاوز حقله الأدبي إلى ما هو أعم وأشمل, إلى حقول تمس العلوم الإنسانية بمختلف توجهاتها, تكون بمثابة تأصيل لما يمكن أن أسميه : إعادة صياغة نظم تفكيرنا الاجتماعي والثقافي والأدبي. لذلك مشاريع بهذا الحجم والطموح مفقودة في الخطاب النقدي النقدي العربي, ناهيك عن خطابنا النقدي المحلي , على الرغم من الاجتهادات التي تأتي من هنا وهناك . والأسباب بالتأكيد تتعدد وتختلف باختلاف المرجعيات والأدوات المنهجية وزاوية النظر , ولكن بطبيعة الحال النقاد بحاجة إلى خطاب نقدي يتبنى عملية تفكيك وإزاحة لجميع النظم والأعراف التي تحكمت بالدرجة الأولى في تصوراتنا للعالم وللتاريخ وللآخر وللمعرفة. وكما أرى فإن المسألة أكثر تعقيدا من مجرد تناول أو متابعة الإنتاج الشعري المحلي من طرف الخطاب النقدي لأن التصور القديم لمفهوم النقد أخلى محله للتصور الحديث الذي ينهض أساسا على إنتاج النصوص بوصفها نصوصا تأبى التصنيف وتخلخل مفهومنا عن التجنيس والأنواع الأدبية كما هو معروف عن مفهوم النص في الدرس النقدي الحديث.أما لو أردنا التحدث عن الشعر المحلي من جهة تطور نصوصه ونموها فإن تلمس الظواهر المرتبطة بها يبدو لي هو الأجدى في المرحلة الحالية من كوننا نحلل النصوص بمعزل عن هذه الظواهر, والتي من أهمها كما يبدو لي النظر -على سبيل المثال- إلى نجاح قصيدة النثر أو فشلها انطلاقا من مقدار انتشارها وكثرة كتابها. هذه نظرة قاصرة وسطحية في رؤيتها وتفكيرها. بينما الأجدى من هذه النظرة هو أن الحديث عن نجاح قصيدة النثر أو فشلها في المملكة هو حديث مرتبط بتطور الذائقة الفنية لهذه القصيدة من جهة , ومن جهة أخرى مرتبط بالتحولات التي تطال بنية الثقافة المعاصرة. أما الجهة الأولى فيمكن الحديث من خلالها عن أبرز المعوقات التي تفضي ولا زالت إلى محدودية انتشار هذه الذائقة, من أهمها بالتأكيد عدم إدماج نماذجها العربية على الأقل في نظام المناهج التربوية التعليمية في مؤسساتنا الرسمية كما هو عليه الحال في نماذج بقية الأنواع الإبداعية التعبيرية الأخرى. وهذا سبب كاف لانحسار أو لنقل ضعف هذه الذائقة في انتشارها بين فئات المجتمع. هذا إذا اعتبرنا بالأساس أن تطور النوع الأدبي وتحولاته له علاقة بسلطة المؤسسة وإيديولوجيتها التي تهيمن على ذهنيات أفراد المجتمع. أما جهة التحولات في الثقافة المعاصرة فأظن أن أهم الأسباب المرتبطة بها , والتي أدت فيما أدت إليه , من ضعف هذه الذائقة هو تراجع دائرة جماهيرية الشعر عالميا إلى حدوده الدنيا, أي بين من يمارسه وبين متلقيه من النخبة. أعلم من جهة أخرى أن سمة التراجع هي إحدى أهم مظاهر النتائج التي تفرزها مثل تلك التحولات على صعيد الثقافة العالمية. وبالتالي لا بد ربط النتائج بالأسباب من منظور الأزمة العالمية التي يمر بها الشعر. لكنّ السؤال الذي يلح علي كثيرا هنا , هو ما موقع الشاعر من هذا الكلام؟ بمعنى أن ما نقوله من تحليل يظل في مدار اهتمام الباحث والناقد بينما الممارسة الشعرية كهم يومي وتأمل هي لصيقة الشاعر وحده , ولا يعنيه ما نقول إلا بقدر ما تفتح له تساؤلاتنا على أفق مغاير في تأمل شعريته فقط. Mohmed_z.hotmail.com