محمد الحرز

محمد الحرز

قلت ذات مرة : عليك أن تمضي , ليس في وسعك أن تطرق الباب, عليك أن تمضي , العتبات عالية , ولا ينبغي على قدميك إرهاقهما بالمحاولة, لأنك ستعرف لا حقا كيف يكون التورطُ كلما تجتاز بابا واحدا يفضي بك إلى حياة الأصدقاء؟! الأصدقاء الذين هم من فرط نقاوتهم ترى إلى أحلامهم الكبيرة وهي تتدفق في الشرايين وكأنها تدرك تماما أن ما يغشى أبصارَنا منها ليس سوى الحبل السري الذي يشد الجسدَ إلى الحياة . وإذا كنا منذ الولادة لم نجرب كسر الأصفاد عن النظرات الحبيسة في العيون, ولم نقاوم ضربات الفأس التي تنزل علينا من الذاكرة , ولم نصغ إلى صوت المرأة التي تقول: عليكم بالوصايا أيها الشعراء , هي بيتكم الذي تدلفون إليه كلما مسكم ضرٌ , وانتابكم وجع. لا تردموها بالحجارة , على الأقل خذوا منها ما فاض عن الكأس , فالطريق طويلة إلى ذواتكم . والممشى تتناهبه الذئاب مثل فريسة . دعوا الماء الذي تحملونه فوق أكتافكم ينسكب عليها كلما تعرضت وصيةٌ واحدة إلى الشمس. ولأنكم مثقلون بالكلمات , وتخافون التيه , وتحسبون الأغصان التي تحركها الريح لصوصا تتربص بكم كلما نزلتم واديا وصعدتم تلة , وعبرتم نهرا , فإنكم تتوجسون الغواية وتظنون أن ما تقوله لكم الأمهاتُ عن الكنوز المدفونة في حياتكم مجرد أكاذيب وأساطير لا تبوحون بها إلى أحد منكم , ونادرا ما تقعون في الخطأ لأن الخطوة التي تعرف طريقها إلى الهاوية حقنتموها بالمخدر فتاهت في الصحراء. ألا ترون لم يبق أثر منها سوى صدى متقطع لا يصل حتى إلى قبور الموتى. مضى شوط من العمر وكان علينا كأصدقاء وشعراء أن ندرك أن المقاومة والإصغاء والتجريب هي وثيقة الصلة من العمق بالشعر , والصوت الذي لا نميزه في النهار ناهيك عن الليل , ووصاياه التي تلح علينا كثيرا في النوم ,هو دهشة تسكنها امرأة تتأمل لغز العالم من خلال صورنا في الحياة.(جاسم الصحيح) كان من بين الذين فتحوا كوة في جسدها , كي يفك طلاسم هذا اللغز , ويحرر وصاياه , ويكتبها كما يريدها هو لا كما نريدها نحن . وكانت القصيدة رهانه الأكبر على تحريرها من سلطة الحقيقة وتصوراتها الجاهزة. الرهان ذاته كان يكبر معه كلما كبرت خطوته واتسعت, هو غائر في الطفولة , خلف أبوابها السرية , لم يسع إلى البحث يوما عن مفاتيحها في زوايا قريته « الجفر» وحاراتها . لكنها كانت تتسرب إليه من الشقوق كي تستقر كفكرة في رأسه, وسوف تلح عليه كثيرا حين تطأ قدماه بلاد العم سام « أمريكا» وكأن الحياة بذلك قذفته من ضفة إلى أخرى, من مدينة مسورة بضجيج الذاكرة والتاريخ , إلى مدينة بلا حدود , ضجيجها يذهب إلى الجغرافيا والمستقبل. لقد كبرت الخطوة حد التشظي والانفلات وأصبح المأزق ينبئ عن ميلاد شاعر.تُرى هل رأفت به الحياة عندما قذفته في مقتبل العمر كالصاروخ في مدينة غير مدينته؟! ألم يجد الشعرُ حيلة أخرى كي يدفعه إلى القصيدة,أقل خبثا من تلك الحيلة التي تقتلعه من الجذور دون سابق إنذار؟ لا حقا كان عليه أن يتأسف كثيرا ,ليس لأنه وقع في مصيدة الشعر وحبائله وحسب, وإنما كون الاقتلاع هو المنطقة الهشة التي سرعان ما تسرب الشعر إليها مثل برق لاذع , وصارت صورة النخلة الاحسائية عند جاسم هي الرمز الذي يتماهى مع مدينته وقريته وطفولته وتاريخه, إنها صورة اختزالية تقودني إلى الاعتراف بأن الشفافية هي موضع الحقيقة في شعر جاسم , ومن دونها لا أعرف كيف أسير في دهاليز تجربته. إذن المفارقة بين مدينتين هي الشرارة الأولى , هي الانتقام الأول للشعر إذا ما اعترفنا أن للشعر انتقاماته العديدة ضد الشاعر. عندها كان عليه أن يجرح مخيلته ليس بمشرط أو سكين , وإنما برأس الكلمات المدببة مثل دبوس , تلك الكلمات التي كان الشعر يغويها كي تدخل. هنا ينبغي الاعتراف لكم أن البدايات لا تغري الشاعر فقط في التأمل والكتابة , ولكن حتى أصدقاءه تغريهم عندما يكتبون عنه بشيء من التورط والحب, ولأن السر يكمن كذلك في البدايات كان على قصيدته أن تصون دروبها وتحميها كي لا يطأ ترابها الغرباء, لذلك لا تبرح الهوية تؤرقه من العمق حتى كادت تصل إلى الجذور من فرط هاجسها المتنامي. لكنه لم يكن يغفل إطلاقا ما كان يردده على مسامعنا « أنه كان مدينا للجمال» أليس الجمال هو رهان الطبيعة الأكبر كي يفتح الإنسان لها قلبه ومخيلته كما الزهرة؟! أليس ما يعنيه جاسم هو وثيق الصلة بهذا الرهان , ألا توحي تجربته بذلك!!. هو يقول القصيدة , وعليه أن يقولها , ولا شيء غير ذلك , لكنه ليس بمقدوره أن يقف على حافتها , لأن القصيدة سرعان ما تقلب له ظهر المجن , وما علينا نحن ـ أصدقاؤه ـ سوى البحث عن تفاصيلها الشاردة في حياته التي تستعصي على غيره من الناس. لذلك حين استقرت ملامح القصيدة على يديه وطالت أغصانها , وأصبح تاريخ قصيدته هو تاريخ مدينته بلا تمايز أو مماهاة على الإطلاق, قلت له : عليك أن تمضي, ليس بوسعك أن تطرق الباب , فالوصايا والقصيدة توأمان سياميان لا تحرك جهة دون أخرى , ربما تصادف حطبا كثيرا في نهاية القصيدة , أشعل النار ولا تنظر إلى أعلى الجبل, نحن أصدقاؤك سئمنا الانتظار, البرد لسعنا مثل أفعى في هذه البراري الشاسعة أيها الصديق الرائع.