يظن كثير من الناس أن المعرفة تتناسب طرديا مع راحة الإنسان وطمأنينته، لكن واقع الحال يخالف تلك الفكرة السائدة، التي ربما يكون مصدرها احترام الناس لمصادر المعرفة وأهلها، دون التفكير في تبعات كمية المعرفة والدراية بالأشياء على مستوى القلق السلبي لدى صاحبها. حتى إن هناك من المفكرين من ربط بين راحة البال لدى البسطاء من الناس وضعف مستوى معرفتهم بما يدور من حولهم وتعقيدات الأوضاع الحياتية أو النفسية، التي يعيشونها أو يتعرضون لآثارها في بعض جوانب ظروفهم المختلفة.
وفي الأساطير المؤكدة لأهمية هذه الفكرة، يُحكى أن نسرا كان قد تمرد على أوامر سليمان التي تتطلب انضباط جميع الكائنات من الحيوانات والطيور في مملكته الهائلة الحجم، ذات التنظيم البطريركي الدقيق. ولكونه من الطيور الجارحة، التي لا يقدر عليها أي كائن آخر، فقد أصبح يقضي أوقاته على رؤوس الجبال بعيدا عن متناول بقية الحيوانات أو الطيور إلا ما كان منها دون قدراته. وعندما تداول سليمان الأمر مع حيوانات مملكته، وكيف يمكنه استعادة النسر المتمرد من تلك القمم المنعزلة في أعالي الجبال، لم يأت اقتراح عملي إلا من عصفور ضئيل، قال: إني على استعداد لإنهاء ذلك التمرد. استغرب بالطبع سليمان من ادعاءات ذلك العصفور، لكنه أعطاه الفرصة لتحقيق ما سمعه منه، فسمح له بأن يتدبر الأمر ويقوم بالإجراءات اللازمة. فقرر العصفور مباشرة أن يطير باتجاه تلك القمم الجبلية، التي اختارها النسر للانعزال عن كائنات مملكة سليمان، وهناك اقترب من النسر، وأبدى رغبته في الدخول في حوار مع ذلك العضو المتمرد. وعندما سمح له النسر بتناول الموضوع معه، بدأ العصفور الحديث عما أسماه شائعات عن أن سليمان قرر إرسال سلاحه الأخير إلى المنطقة الجبلية، التي اختارها النسر للعزلة. فازداد فضول ذلك الطائر الجارح لمعرفة ما هو هذا السلاح الذي سيستخدمه سليمان ضده، فقال العصفور: لا أعرف، لكني سمعت أنه يريد إرسال «الفكر» إليه، ولا أدري ما هو ذلك الفكر! بعدها غادر العصفور منطقة النسر، وهو مطمئن بأنه قد نجح في مهمته. فبقي النسر مهموما بهذا الأمر، ولا يمارس حياته بصورة طبيعية، وكل ما يشغل باله هو ذلك «الفكر»، الذي يحاول سليمان إرساله إليه. وبعد عدة أيام توقفت حياة النسر تماما، ومات منتصبا على إحدى تلك القمم من جراء همه الذي أثاره «الفكر» لديه.
ومغزى تلك الأسطورة أن «الفكر» هم يقضي على صاحبه، وبالطبع يقصد به التفكير المستمر في الشيء، وتقليبه من كل جوانبه، حيث يأخذ اهتمام المرء، ويقضي على العفوية في ممارسة الحياة، والطمأنينة في تقبل كل جوانبها في هدوء وواقعية.
وماذا عما بدأنا به المقالة من ربط المعرفة أو الدراية بالأمور مع مستويات متقدمة من القلق السلبي، الذي يؤدي إلى التفكير فيما يمكن أن ينحرف عن المسار، بدلا من التركيز على الجوانب الإيجابية في الحياة، والبناء على ما يمكن أن يكون قابلا للأخذ والعطاء؟ في الواقع، أن مستوى العمق في تحليل الأمور، وإعطاء العناصر البسيطة قيمة أكبر مما يمكن أن يكون أثرها في ظروف الحياة، له دور في عدم التمتع بما تجلبه الحياة من متع، والبقاء باستمرار في انتظار الكوارث، أو تضخيم ما يمكن أن تأتي به الأيام من الأقدار. وفي تجاوب للدماغ لدى هذه النماذج من البشر، يصبح المعتاد هو صعوبة إفراز هرمون الأندروفين الضروري لممارسة الحد الأدنى من الشعور بالسعادة، وتوقع الأمور الإيجابية، أو التفاؤل بظروف أكثر إيجابية في الحياة، وهو ما يجعل الدورة السوداوية مكتملة العناصر، مما يفضي إلى دورات اكتئاب وقلق مستمرين.