سكينة المشيخص

تنشئة الأجيال والعملية التربوية بأكملها من العمليات الشاقة التي تتطلب ما هو أكثر من العناية والرعاية المادية وتوفير طلبات الأبناء، وإنما هي مسألة تتعلق ببناء الإنسان في ذاته وشخصيته وعقليته ووجدانه، وذلك ما يجعل المسألة التربوية عالية الأهمية، ولا يمكن أن تكون سطحية أو بسيطة لدرجة يفتقد فيها الناشئة للحد الأدنى من مقومات الشخصية المتكاملة في بنيتها العقلية والنفسية.

فيما مضى من سالف الزمن ربما لم تكن التربية عملية معقدة؛ لأن الموروث في التنشئة معروف بصورة واضحة، ويمكن أن يتشارك فيها الأهل والأقارب والمدرسة والمعلمون بحيث يقدم كل فرد دوره في إعطاء الجرعة التي تجعل سلوك الناشئة أكثر تقويما وانضباطا بمطلوبات المجتمع أو العرف أو الدين أو أي أمر آخر يمكن أن تكون به ثوابت وحدود للسلوك حرصا على مصلحة الفرد في المقام الأول.

في عصرنا الحالي، تصبح التربية صعبة ومعقدة، وتتطلب حرصا أكبر وارتفاعا أكثر للوعي بحجم المسؤولية تجاه الناشئة، خاصة وأن هناك أطرافا كثيرة من واقع العملية الاتصالية أصبحت تشارك في بث وضخ رسائل تؤثر في السلوك، سلبا وإيجابا، ولكي تتكامل العملية التربوية لا بد من يقظة في بيان وإيضاح السلبي من الإيجابي؛ حتى لا يقع الناشئة ضحية لجرعات سلوكية خاطئة تنتهي بهم إلى تكوين قناعات وأفكار مصادمة للأعراف والثوابت، فيخرجون عن الإطار التربوي إلى فضاء يتناقض مع المجتمع ويصبحون عالة عليه.

توقفت كثيرا عن واقعة إصدار السلطات الكويتية مؤخرا حكما بالسجن على سيدة كويتية لمدة شهر مع الشغل والنفاذ؛ لقيامها بسب أحد أبنائها أثناء مساعدتها له على مراجعة دروسه، وذلك بعد أن تقدم رجل بشكوى ضد زوجته بعد أن قالت لأحد أبنائها «أدرس يا حمار»، وهذا الوصف أشار إليه المدعي في مرافعته بأن الأم أساءت لأبنائها بألفاظ نابية، ما يستدعي تطبيق القانون لمنع كل إساءة تجاه الأبناء، حتى وإن كانت تلك الإساءة من والديهم.

نسبيا أشفق على تلك الأم؛ لأنها وجدت نفسها في زاوية ضيقة للغاية، وأحاول أن أجد لها العذر، وإن كان من شيء يعزيها على خطأ - افترض أنه غير مقصود في حق ابنها - فهو جرم لا يستحق كل هذا التشهير وأن يصبح خبرا تتناقله الميديا، وقد يأتي من إفراطها في الحرص على أن يبذل ابنها جهدا أكبر في مذاكرته بغية نجاحه وعدم إهمال واجباته المدرسية، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن تأييدها في ذلك لأنه خطأ تربوي، وللأسف كثير منا قد يفعله بصورة روتينية ومكررة دون أن يشعر بفداحته أو يتراجع ويعتذر للابن الذي صدر منه تقصير.

في علم النفس السلوكي والتربوي، كثير من النظريات التي تتجه بنا إلى البعد عن مثل هذه التصرفات تجاه أبنائنا؛ لأنها تحفر عميقا في نفسياتهم، وحين يصف أحدنا ابنه بأنه غبي بسبب تقصير أو تصرف تجاه أمر يفوق قدراته العقلية فإن ذلك يحطمه في الواقع، ويجعله مهزوزا وضعيف الثقة في نفسه، وقد يجد ما يتم وصفه به أمرا طبيعيا في أن يصف به غيره في مواقف مشابهة ما يجعل قاموسه يحتشد بكثير من الألفاظ والعبارات السيئة والسلبية التي تضعه في موضع غير لائق بين أقرانه باعتباره بذيئا أو «قليل الأدب»، وحين يكون قليل الأدب فذلك يعني أن والديه لم يستكملا الأدب معه فيعود ذلك إليهما لأنه كما قال الشاعر:

وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه

لذلك فمثل تلك الواقعة درس لجميع أفراد المجتمع بإعادة النظر في «كيف نتصرف مع أبنائنا؟».