تتكون الأغنية الناجحة في كل عصر وزمان من عناصر ثلاثة لابد من توافرها فيها، وإذا خلت منها فإنها سرعان ما تتهاوى فور إذاعتها بين الناس أو بعد إذاعتها بينهم بقليل، وأعني بتلك العناصر الأداء الجيد أي الصوت العذب المحلق الذي يأخذ بالألباب والقلوب ويدفعك إلى سماعه ربما دون اختيار منك، والعنصر الثاني هو اللحن الجيد ويشترط في صاحبه أن يكون ذا خبرة طويلة في عالم الموسيقى، وقد تمرس فيها بطريقة يخرج اللحن المتوافق مع الصوت الجميل بأبعاد فنية آسرة، والعنصر الثالث هو الكلمة الجيدة وهذه لابد أن تقترن بعطاء شاعر متمكن له باعه الطويل في كتابة الشعر، ويتمتع بشهرة واسعة وقدرة على كتابة هذا الفن الرفيع بما يحمله من موهبة وقدرات إبداعية.
وبدون توافر هذه العناصر الثلاث في الأغنية فإنها سوف تفقد بريقها «إن كان لها بريق» قبل انتشارها بين الناس، وقد تعودت الآذان المرهفة على سماع الأغنية «الجيدة» التي تعرف جودتها بتوافر تلك العناصر فيها، وللأسف الشديد أن الأغنية في عصرنا الحاضر تعاني الأمرين من فقد تلك العناصر في أوصالها، فيهتز جسدها اهتزازا عنيفا فتحتضر أثناء ولادتها أو ربما قبل الولادة أحيانا، فمعظم الأغنيات التي تسود الساحة اليوم خالية من الأداء الجيد فتتمنى لو «ابتلعتك الأرض» إن جاز التعبير قبل أن تدخل تلك الأصوات «الناشزة» إلى أذنيك.
وهي في معظم الحالات تفتقر أيضا إلى الألحان الجيدة، فهي خليط من «العبث الموسيقي» الذي يشير بأصابع اليدين إلى ضحالة ما يتمتع به هذا الملحن من ثقافة موسيقية، فألحانه ليست إلا «دندنات» فارغة خالية من الجمل الموسيقية العذبة، بل إنها أحيانا «بدون جمل» على الإطلاق، فهي أقرب إلى «إزعاج» النفوس والقلوب والعقول، ولا يستحق صاحبها إلا الانصراف كلية عن سماع ترهاته ومقاطعه الخالية من الجمل التي يفترض أن تشد المستمعين إليها بدلا من تنفيرهم منها.
أما العنصر الثالث وأعني به الكلمة الجيدة فهي غير متوافرة أيضا في أغنيات هذا الزمان، فيصح فيها ما قاله الشريف الرضي عندما سمع في عصره واحدة من تلك الكلمات المغناة «لغة تنفر المسامع منها حين تروى وتشمئز النفوس» ولو بعث هذا الشاعر العملاق بين ظهرانينا اليوم لكان تشبيهه بلغة الأغنيات السائدة في عصرنا أقوى وأعمق وأشنع بكثير من ذلك الوصف، فالنفوس في وقتنا هذا أكثر اشمئزازا من نفوس معاصريه، وبالتالي فإن «النافرين» من سماع الأغنية الحالية ستغدو أعدادهم أكبر بكثير.
وبما أن الأداء هو قمة نجاح الأغنية دون استثناء اللحن الجيد والكلمة الجيدة بطبيعة الحال، فإنني أسمع عجبا من الأعاجيب في أصوات عديدة مازالت تخدش آذاننا فهي «نشاز في نشاز»، والمسألة الخطيرة لا تكمن في رداءة تلك الأصوات فحسب بل تكمن في خفضها لأذواق البشر بدلا من الارتفاع والارتقاء بها، وتلك مصيبة من المصائب التي منيت بها الأغنية في عصرنا الراهن، فعندما «يصفعك» أحدهم إن جاز التشبيه بصوته الرديء فأنت لا تملك في هذه الحالة إلا أن تردد ما جاء في كتاب رب العزة والجلال من سورة لقمان «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».