محمد الحرز



كنت ممسكا بيد أمي وهي تقودني بخطوها المتصالب إلى الكتاتيب، كنت مشغولا بالنظر عن الطريق إلى معصمها الذي كانت تحفه أساور الذهب (نسميها المعاضد)، وكلما أخذنا الطريق في منعطفاته كنت أصغي مشدوها إلى الرنة التي تصدرها الأساور عند الاحتكاك. لم أنتبه للمسافة التي قطعناها ولا إلى الأمهات اللاتي كن يجرين حديثا قصيرا معها إذا ما صادفت إحداهن في طريقها، والغريب في الأمر رغم الأحاديث المتقطعة بين حين وآخر إلا أن أمي لم تفلت يدها من يدي وكأن قبضتها المحكمة هي موضع النبض من قلبها والدم في شريانها.

كانت الدرب بين البيوت في حارة الكوت ما زالت ترابية، وبيوتها الطينية المتراصة هي امتداد للدرب نفسه، فمن يمشي ويعلوه شيء من الغبار لا يتفاجأ به، فهو لصيق البيوت أيضا ورائحته لا تغادر أنفك حتى يغدو واحدا من أفراد العائلة.

ففي فترة السبعينات من القرن العشرين كان التراب صديقنا في طرق الحارة وفي داخل البيت أيضا، نلعب بعد الظهيرة بوصفنا أطفالا لم تتجاوز أعمارهم العاشرة ونحتاج إلى كميات كبيرة من التراب لنخطط به الملعب، فيما نبني بيوتا من الطين بعد خلطه بالماء أنا وأخوتي، يحدث ذلك في أقصى مكان في «الرواق» وهو المكان الفاصل بين مدخل البيت ووسطه.

توقفت أمي أمام بيت عتبته الوحيدة لا تتسع سوى لشخص واحد، بابه من الحجم المتوسط، ولونه يشبه لون الجدار، وما أن فُتح الباب حتى صدم أذني ضجيج هو خليط من أصوات متقاربة النغمات تعلو وتنخفض بتنظيم معين (لاحقا أدركت أنها التلاوة الجماعية لسورة الإخلاص)، وما أن أخذت موقعي داخل البيت لم أكن أصدق ما أراه، مجموعة من الأطفال ذكورا وإناثا قد يتجاوز عددهم الأربعين وفي سن متقاربة. الذكور يلبسون الثياب ذات اللون الأبيض ويعتمرون قبعة (طاقية) بيضاء ومن كان من أسرة ميسورة فإنه يلبس قبعة مطرزة بخيوط ملونة بينما الإناث يلبسن الثياب ذات الأكمام الطويلة «النفنوف» وعادة ما تكون ألوانها تميل لأن تكون فاقعة ومزخرفة برسوم مختلفة، وفوقها ما نسميه «البخنك» وهو أشبه بالحجاب الذي يوضع على الرأس. لكن حوافه مطرزة بالزري ويغطي الكتفين إلى ما بعد الصدر. وأمامهم كانت المصاحف مفتوحة على إحدى سور القرآن الكريم متكئة على حوامل خشبية صغيرة بنية اللون ومتهالكة من كثرة الاستخدام. فجأة أصبحت وسط حلقة من النظرات، فالكل يتساءل من هذا الوافد الجديد؟!

لكني سرعان ما اختبأت خلف عباءة والدتي وأمسكت يدها بقوة، وهي في هذه الأثناء كانت تتحدث مع «المطوعة» عن انضمامي إلى حلقتها في تجويد وحفظ أجزاء من القرآن الكريم.

اقتربت مني ببطء، أخذت يدي ثم قبلتني على جبيني بعدما ارتسمت على شفتيها ابتسامة لا يمكن نسيان ملامحها بعد كل هذه السنين وهي تسألني ما اسمك؟ كان صوتي خافتا بحيث كررت اسمي أمامها أكثر من مرة.

في تلك المرحلة من حياتي كان تأثيرها قويا بعد أمي. وحتى بعد أن انقطعت عن دروسها «المطوعة» التي استمرت قرابة الأربعة أشهر لأسباب لا محل لذكرها الآن، إلا أن طغيان وقوة شخصيتها وأسلوبها أخذت مني كل مأخذ، وبعد انقضاء أكثر من أربعين سنة ما زالت صورتها عالقة في ذهني وهي تضع أصبعي على كل كلمة من آيات سورة الفاتحة، وبصوتها الفخم الرنان كنت دون أن أعلم أتلقى أول فيوض المعرفة، ودون أن أشعر أضع أولى خطواتي على سلم الحياة، بفضل هذه السيدة الفاضلة التي لولاها لكنت أقل شغفا على الاطلاع وحب المعرفة. فألف رحمة على روحها الطيبة