خليل الفزيع

هذا سؤال قد يخطر ببالك عندما ترى بعض من تعرفهم أو لا تعرفهم، وهو يقابلك حينا بصورة أليفة ومحببة للنفس، تدفعك للوثوق به، والأخذ بمشورته، وحينا آخر يقابلك بصورة منفرة وبغيضة على النفس، تدفعك للتردد في التعامل معه والخوف من منحه ثقتك، فلا تجد مبررا لهذا التقلب في طباعه، خاصة إذا كانت الظروف هي ذاتها في الحالتين لكن ردود فعله تختلف حيال الموقف ذاته، وهو اختلاف لا تفسير له سوى أنه اضطراب نفسي قد ينتابه لسبب أو لآخر، وهو أمر يبعث على الحيرة والقلق، خاصة لدى أولئك الذين ينظرون إلى الحياة بتفاؤل يحجب عنهم سلبيات الحياة والناس، رغم ما في الحياة من تقلبات، ورغم ما في الناس من تحولات مزاجية لا تستقيم على حال، فالناس بصورة عامة مهما بلغت درجة التفاؤل لديهم، ما زالت نفوسهم لغزا محيرا يقف علماء النفس والاجتماع أمامه عاجزين عن فهمه، فالإنسان الذي اكتشف الكواكب الأخرى، ووصل في مخترعاته ومبتكراته لدرجة لم يصلها في عصور سابقة، هذا الإنسان ظل جاهلا بأسرار نفسه، وتفسير سلوكه، وما قدمه في هذا المجال، لا يتعدى الاجتهادات التي لا يلبث أن يتخلى عنها عندما يدرك أنها لا تشفي غليله في اكتشاف عالم ذاته، فالنظريات الجديدة حول الذات الإنسانية لا تلبث أن تفقد أهميتها عندما تظهر نظريات أخرى تناقضها، حول حالات هي نفسها، حتى وإن تطابقت الظروف زمانا ومكانا.

وتظهر حدية الطباع أكثر، لدى أناس فقدوا الثقة بأنفسهم، ودفعهم عدم الثقة بالنفس إلى التمترس خلف تصرفات غير طبيعية قد تصل إلى درجة الانحراف في السلوك، أو التطرف في التفكير، أو ما هو أبعد من ذلك بكثير في التعامل مع الآخرين، وربما وصل بعض الناس إلى درجة من الأنانية تحشره في زمرة أولئك الذين يحملون شعار: (أنا وبعدي الطوفان) وهو أمر تتعقد معه الحياة لتصبح أعباؤها فوق طاقته، وواقعها فوق احتماله، وينسيه ذلك إنسانيته التي منحها له الخالق عندما كرمه على بقية خلقه، واصطفاه على بقية الكائنات.

ولا شك أن التعامل مع أصحاب النفوس المتشائمة، والطباع العنيفة، هو من الأمور المرهقة للناس الأسوياء، وما يخفف عبء هذه المعاناة هو الإيمان بأن الزبد يذهب جفاء كما قال تعالى: (كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ). والعاقل لا يبتئس إن لقي من سلوك الآخرين ما يزعجه ما دام واثقا من سلوكه، فيما بينه وبين خالقه وما بينه وبين الناس، وإن تعددت وجوه إنسان ما، فلا يمكن لصاحب الخلق القويم والنفس المطمئنة والثقة بالذات، أن يجاري غلاظ الطباع والمتنمرين على غيرهم، ممن لا يرون إلا النصف الفارغ من الكأس.

تلك طباع البشر تتقلب حسب ظروفهم النفسية والأخلاقية، ولا يمكن مجاراة السيئ في سوئه، وإلا انقلبت الحياة إلى جحيم، واسودت الدنيا في وجوه الجميع، وهذا (عبء على الحياة ثقيل) كما يقول إيليا أبو ماضي.

الحياة لا تخلو من المنغصات، ومهما بلغت حدة هذه المنغصات وتفجرت براكينها، وتراكمت أثقالها، فإن الإنسان السوي يملك من الحكمة ما يجعل بينه وبين ذلك سدا منيعا يصعب اختراقه، كالجبل الذي لا تهزه الرياح العاتية، وهذا بطبيعة الحال لن يتحقق ما لم يتوفر الإيمان بالخالق، مما يبعث الثقة بالنفس، ويصونها من التردي في مهاوي القلق والعنف والخوف والتردد، وبقدرات منحها الله لأصحاب النفوس الكبيرة، والهمم العالية، والإرادة القوية الصلبة، ليكون من أصحاب الوجه الواحد المشرق، لا من أصحاب الوجوه المتعددة الكالحة.