خليل الفزيع



بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين الصديق وصديقه، وبين مجتمع وآخر، أو دولة وأخرى، قد يطفو على السطح في علاقة الطرفين، جدل حول موضوع معيّن، وقد لا يكون هذا الجدل في سياقه المنطقي، وإن بدا كذلك؛ لأن الجدل بحثًا عن الحقيقة هو هدف الجميع، لكن المقصود هنا هو ذلك الجدل الناجم عن تعنّت أحد الطرفين، وهو تعنّت غالبًا ما ينتج عن خلل في التفكير، أو سوء في الفهم أو خطأ تفسير الموقف، وذلك يؤدي إلى الرغبة في فرض وجهة نظر معيّنة، دون النظر للعواقب السلبية لهذا التعنت، وهو لا ينظر إلى موضوع الجدل إلا من زاوية ذاتية تتجاهل الطرف الآخر، وتقلّل من شأنه، ومن شأن موقفه، وسواء كان المتعنت على صواب أم على خطأ فالجدل العقيم في الحالتين أمر مذموم، خاصة إذا اعتراه العناد والإقلال من شأن الطرف الآخر، والإصرار على تجاهل كل المبررات التي تؤكد خطأ رأيه؛ لأن هدفه الأساس هو الانتصار لموقفه دون النظر لما يعنيه ذلك من انتهاك صارخ لحقوق الطرف الآخر في إبداء رأيه، والدفاع عن نفسه.

هذا النوع من الجدل العقيم لن يصل إلى نتيجة إيجابية، بل النتيجة الحتمية له هي الخلاف بدل الاختلاف، والجنوح للعناد بدل التسامح ولين الجانب، وإبداء التفهّم لآراء أو مواقف الآخرين، مهما بلغت درجة تباينها، ما دام الهدف هو الوصول إلى درجة من التقارب تُرضي الطرفين، تحاشيًا للوصول إلى طريقٍ مسدودةٍ تُفقد الطرفين فرصة الوصول إلى أي تسوية ممكنة، وتكون النتيجة عداءً قد يستمر لسنوات، يدفع ثمنها أصحاب الجدل العقيم، وكأن الأساس هو نشوب العداء لا الوصول إلى حل مقبول، لأي مشكلة مهما كانت شائكة ومعقدة لدرجة أنها تحجب الحقيقة المراد الوصول إليها، وكثيرًا ما يؤدي الجدل العقيم إلى فراق مزمن بين طرفين لا يتوقع أحد أن تنشب بينهما القطيعة والعقوق، ونسيان الجوانب الإيجابية في العلاقة بين الطرفين، فتتحول العلاقة الطبيعية بينهما إلى عداء سافر، تُستعمل فيه كل الأسلحة المدمّرة للعلاقات بين الناس، ومنها تشويه صورة الآخر، والتحريض ضده وضد مواقفه، والتشكيك في سلوكه وتفكيره، وهو أمر مؤسف دون شك عندما يتحوّل أصدقاء الأمس إلى أعداء اليوم.

ما يحدث بين الأفراد قد يحدث أيضًا بين الدول عندما تصرّ دولة ما على عداء دولة أخرى، بسبب اختلاف في المواقف ما يلبث أن يكبر ويتضخم مثل كرة الثلج التي تدمّر كل ما يقف في وجهها، دون التفكير في الاحتمالات السلبية الناتجة عن ذلك الاختلاف؛ ليتحوّل الاختلاف في الرأي أو الموقف إلى خلاف حاد بين طرفين، وذلك حُكم مُسبق على تدمير العلاقات بين هذين الطرفين، وقد يؤدي إلى النزاعات الحادة المؤدية إلى الحروب الطاحنة، وما تعنيه من خسائر لا حدود لها؛ لأن الحروب ليس فيها منتصر، ومَن يدفع الثمن هم السواد الأعظم من البشر الذين لا ناقة لهم ولا جمل في أي خلاف قد ينشأ بين دولهم.

وما من وسيلة لتلافي الاختلاف الذي قد يؤدي إلى خلاف حاد ومدمّر، غير الحوار العقلاني المحكوم بشروط موضوعية تراعي مصالح الطرفين، والحد من تفاقم الخلاف تحاشيًا لعواقبه العقيمة، ومن المؤكد أن في كل دولة حكماء يقفون في وجه أي تطور للخلاف، وهم الذين يسعون للحد من تفاقمه مراعاة لمصالح الطرفين، والحوار وسيلة بناء بقدر ما يكون الخلاف أداة هدم؛ لأنه نتيجة حتمية لأي جدل عقيم، يحجب الأنظار عن رؤية الحقيقة، وفي الوقت نفسه يضخّم صغائر الأمور لتبدو ضخمة بشكل يوحي بصعوبة تفكيكها وتبسيطها، وتحويلها من مسببات للحرب إلى دوافع للسلم الذي ينمو في ظله الأمن، وتزدهر في حِماه كل عوامل انتشار الخير، واندحار الشر.