د. سمية السليمان

هل تعرف ملهي الرعيان؟ إنه طائر صغير يقترب منك ليزين لك فكرة صيده لقربه، ولكن عندما تحاول ذلك يطير مسافة قصيرة عنك لتلحق به مجددا. يستدرج الطائر الشخص شيئا فشيئا وهو يلاحقه دون جدوى، حتى إن التفت حوله وجد نفسه بعيدا عن المكان الذي بدأ منه. هذا ما كان يحدث للرعاة عندما يلهيهم الطائر عن الرعي، ولذلك سمي بملهي الرعيان، واستخدم المصطلح مثلا لما يبعدك عن هدفك.

هذه الصورة الذهنية لشخص يمشي مسافات قصيرة لتتراكم فيبتعد عن مكانه ويضيع، هي خير تشبيه لما يحدث لكثير منا. صحيح غالبنا لا يعمل في الرعي، ولعل غالبنا لم ير هذا الطائر يوما، ولكننا جميعنا معرضون للضياع التدريجي.

يشبه هذا الضياع فقدان الذات. بعد أشهر أو حتى سنوات قد نتوقف ونلتفت حولنا لنجد أنفسنا في مكان لم نكن نخطط يوما أن نصل إليه. كيف وصلنا إلى هنا؟ قد تنظر إلى نفسك في المرآة فترى شخصا غريبا لا تعرفه. كيف ضيعت نفسك؟ ومتى؟ ولماذا لم تنتبه من قبل؟

لا أحد يدوم حاله، بل إننا في نمو وتغير مستمر. قد لا نحس بهذا التغير ونعتقد بأن محيطنا أقل ثباتا منا، ولكن الحقيقة أن لا شيء ثابت. فقدان الذات أمر منتشر بكثرة. قد يتمثل ذلك عندما يتحول ابنك جراء مرافقة أصدقاء جدد يحاول باستمرار إثبات نفسه لديهم. أو عندما تخترع إحداهن نفسها لدى جاراتها الجدد ضمن مثاليات وتكلف غير مستدام. نرى الضياع عندما تمسح شخصية أحد الزوجين لإرضاء الطرف الآخر تحت مظلة زائفة من «الحب والولاء».

في بيئة العمل نرى هذا الضياع التدريجي عندما ينخرط أحدهم في عمل بشغف ليجد نفسه مثقلا بمهام بعيدة كل البعد عما يحب أن يعمل، وبدلا من أن تكون جزءا بسيطا من عمله تبدأ بالاستحواذ عليه.

فترة اللحاق بالطائر مسلية ولها هدف قصير المدى يبدو قريب المنال. قد يبدو بعيدا عن هدفنا الأكبر ولكن وقت اللحاق به لا نرى إلا ما هو أمامنا. يأتي الندم مصاحبا للملامة عندما ننصدم بالواقع. قد نحتاج لشخص يساعدنا بأن نرى أننا ضائعون، فمن يعرفوننا جيدا هم أوائل الناس الذين قد يبدون قلقهم. في رحلة الضياع قد نتخلى عنهم باحثين عن السراب وناكرين للواقع.

جميعنا معرضون للضياع وإن كان ذلك بدرجات ومدد متفاوتة. قد نحصن أنفسنا من خلال التعرف على أنفسنا وقيمنا والتمسك بها من خلال معرفة دوافعنا ومراجعة ومحاسبة أنفسنا باستمرار.