لم أشعر بثقل الأفكار في رأسي طوال حياتي كما أشعر به الآن، هذا ما أسرّه لي أحد الأصدقاء حين جمعتني به جلسة حوارية ذات مساء. وحين سألته ماذا تقصد بكلامك؟! أجابني بعبارة أكثر إرباكا وغموضا: كلمة السر هي في النسيان. ويتابع في القول: ألا تتفق معي أننا نملك في أدمغتنا ثقبا أسود يتسع كلما تقدمنا في العمر، ولا نعلم أين يقع بالضبط، في مقدمة الرأس أم في مؤخرته. لكن كل ما ندركه بإحساس فطري أن وظيفته الأساسية هي قيامه بابتلاع كل ذكرياتنا التي يسجلها شريط الأيام في حياتنا اليومية؟!
كان يتحدث وأنا كنت مصغيا له بانتباه الطفل المأخوذ بدهشة الملامح الطاغية على وجهه، وبتركيز عالم الرياضيات المأخوذ بالأشكال التي ترسمها يداه وهو يلقي على مسامعي كلماته بحذر واطمئنان في نفس الوقت. كنت حريصا على ألا أقاطعه وهو يتداعى في كلامه، وحريصا على أن أمهد له الطريق وأوسع من جانبيه، وأضيء له عتمته حتى لا يتعثر كلامه ويفقد بريقه في الظلام، كل ذلك وأنا أحاول الإمساك بالمعنى الذي يريد قوله من فتات كلماته، رغم أن شفتيه وطريقة نظراته تبوحان لي بالمعنى كاملا قبل أن يكتمل صوته في فضاء اللسان.
قلت له بعد أن سكت فجأة ناظرا إلي نظرة المرتاب من صمتي الذي طال أثناء حديثه: أنا لا أنظر إلى مأساتك بهذه الصورة المجازية التي تطرحها.
صحيح أنك تشعر بهذا الثقل بسبب التيهان الذي أصابك وأنت تبحث عن هذا الثقب الذي في رأسك كي تتخلص من أفكارك المهترئة والقديمة لتصبح خفيفا ومضيئا، وصحيح أيضا أن ما يضاعف مأساتك هو سرعة قطار الأفكار الذي داهم الحياة الحديثة في كل جوانبها المختلفة بعد أن كان بطيئا في حركته وفي تنقلاته، ولذلك كما تقول لي: أصبحت مخزنا كبيرا تتكدس فيه البضائع غير الصالحة للاستعمال والفاسدة ذات الروائح الكريهة. لكنني يا صديقي كنت مستعدا لمثل هذه المداهمات في الحياة. مثلا النسيان عندي يرتبط أولا وأخيرا بتفتح الضمير (وكي أكون متواطئا معك في استخدام اللغة المجازية) وكأنه حديقة تفوح بمختلف الروائح والعطور الفواحة لزهورها، وكل فكرة تريد أن تنضم إلى هذه الحديقة ثمة شروط من أهمها أصالة العطر وانتشاره وذوبانه في فضائها، وهكذا يصبح النسيان خفيفا لا كما تصورته أنت ثقبا أسود أضعت طريقه.
لكن هل لا حظت يا صديقي أن اختلافنا يكمن فقط في الطريقة التي استخدمنا بها المجاز في اللغة؟! وإلا الواقع الذي نعيشه أنا وأنت هو هو بظروفه الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، الفرق فقط أنت تكبرني بجيل واحد. بيد أن هذه الظروف لم تتغير تغيرا جذريا حتى نضع هذا الواقع في الحسبان. وعليه أظن يا صديقي لو أنك غيرت الطريقة في نظرتك إلى اللغة التي تعبر بها عن أفكارك (رغم أني أدرك صعوبة ذلك بسبب أن هناك جزءا من تأثير التربية اللغوية مرتكزا في لاوعينا الإدراكي) شريطة أن تملك الإرادة في تغيير زاوية النظر من جهة وإن توسع من إدراك الوقع الذي تعيشه جغرافيا وتاريخيا من جهة أخرى.
رمى صديقي عليّ نظراته كأنه في سباق جري تتابع، ومن شدة لهاثه وتقطع نفسه أومأ إليّ أن أتوقف عن هذا الكلام الذي أشبه بالهراء على حد قوله. وتابع في القول: اختلافنا أعمق من تصوراتنا عن اللغة، اختلافنا يكمن أولا وأخيرا في الطبيعة البشرية، وهذا أمر طبيعي، لكن غير الطبيعي والذي أشعر بثقله هو عدم تجاوز ثقل التاريخ الذي حملته منذ الولادة ولم استطع التخفف منه لا في حياتي الخاصة ولا العامة، وكما تعلم يا صديقي ما أسميه التاريخ يأتيني على شكل تصورات وأفكار وذكريات متدفقا حارا يسد علي منافذ هذا الثقب.
لم تسعفني الكلمات كي أقول له ما في قرارة نفسي: أعانك الله على بلواك يا صديقي.
كان يتحدث وأنا كنت مصغيا له بانتباه الطفل المأخوذ بدهشة الملامح الطاغية على وجهه، وبتركيز عالم الرياضيات المأخوذ بالأشكال التي ترسمها يداه وهو يلقي على مسامعي كلماته بحذر واطمئنان في نفس الوقت. كنت حريصا على ألا أقاطعه وهو يتداعى في كلامه، وحريصا على أن أمهد له الطريق وأوسع من جانبيه، وأضيء له عتمته حتى لا يتعثر كلامه ويفقد بريقه في الظلام، كل ذلك وأنا أحاول الإمساك بالمعنى الذي يريد قوله من فتات كلماته، رغم أن شفتيه وطريقة نظراته تبوحان لي بالمعنى كاملا قبل أن يكتمل صوته في فضاء اللسان.
قلت له بعد أن سكت فجأة ناظرا إلي نظرة المرتاب من صمتي الذي طال أثناء حديثه: أنا لا أنظر إلى مأساتك بهذه الصورة المجازية التي تطرحها.
صحيح أنك تشعر بهذا الثقل بسبب التيهان الذي أصابك وأنت تبحث عن هذا الثقب الذي في رأسك كي تتخلص من أفكارك المهترئة والقديمة لتصبح خفيفا ومضيئا، وصحيح أيضا أن ما يضاعف مأساتك هو سرعة قطار الأفكار الذي داهم الحياة الحديثة في كل جوانبها المختلفة بعد أن كان بطيئا في حركته وفي تنقلاته، ولذلك كما تقول لي: أصبحت مخزنا كبيرا تتكدس فيه البضائع غير الصالحة للاستعمال والفاسدة ذات الروائح الكريهة. لكنني يا صديقي كنت مستعدا لمثل هذه المداهمات في الحياة. مثلا النسيان عندي يرتبط أولا وأخيرا بتفتح الضمير (وكي أكون متواطئا معك في استخدام اللغة المجازية) وكأنه حديقة تفوح بمختلف الروائح والعطور الفواحة لزهورها، وكل فكرة تريد أن تنضم إلى هذه الحديقة ثمة شروط من أهمها أصالة العطر وانتشاره وذوبانه في فضائها، وهكذا يصبح النسيان خفيفا لا كما تصورته أنت ثقبا أسود أضعت طريقه.
لكن هل لا حظت يا صديقي أن اختلافنا يكمن فقط في الطريقة التي استخدمنا بها المجاز في اللغة؟! وإلا الواقع الذي نعيشه أنا وأنت هو هو بظروفه الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، الفرق فقط أنت تكبرني بجيل واحد. بيد أن هذه الظروف لم تتغير تغيرا جذريا حتى نضع هذا الواقع في الحسبان. وعليه أظن يا صديقي لو أنك غيرت الطريقة في نظرتك إلى اللغة التي تعبر بها عن أفكارك (رغم أني أدرك صعوبة ذلك بسبب أن هناك جزءا من تأثير التربية اللغوية مرتكزا في لاوعينا الإدراكي) شريطة أن تملك الإرادة في تغيير زاوية النظر من جهة وإن توسع من إدراك الوقع الذي تعيشه جغرافيا وتاريخيا من جهة أخرى.
رمى صديقي عليّ نظراته كأنه في سباق جري تتابع، ومن شدة لهاثه وتقطع نفسه أومأ إليّ أن أتوقف عن هذا الكلام الذي أشبه بالهراء على حد قوله. وتابع في القول: اختلافنا أعمق من تصوراتنا عن اللغة، اختلافنا يكمن أولا وأخيرا في الطبيعة البشرية، وهذا أمر طبيعي، لكن غير الطبيعي والذي أشعر بثقله هو عدم تجاوز ثقل التاريخ الذي حملته منذ الولادة ولم استطع التخفف منه لا في حياتي الخاصة ولا العامة، وكما تعلم يا صديقي ما أسميه التاريخ يأتيني على شكل تصورات وأفكار وذكريات متدفقا حارا يسد علي منافذ هذا الثقب.
لم تسعفني الكلمات كي أقول له ما في قرارة نفسي: أعانك الله على بلواك يا صديقي.