د. فالح العجمي

يعرف كثير من القراء وجود العبارات الصحيحة والخاطئة في اللغة، لكن كثيراً منهم ربما لا يعرفون أن هناك عبارات في اللغة صحيحة تركيباً لكنها خالية من المعنى، ولا تشير إلى حيز منطقي من الواقع. وبالطبع القراء من الشعراء أو من متذوقي الشعر سيعرفون أن بعض تلك العبارات مطلوبة في بعض السياقات الشعرية، عندما يريد الشاعر الألغاز أو تضمين الغموض في سياق القصيدة. لكن الطريف في الأمر أن بعض مستمعي الشعر أو قرائه يظنون القصور بأنفسهم عن الحصول على معنى لتلك العبارات، وهي في الواقع ليس لها معنى. وقد تناول مثل هذا النوع من الإنشاء الفيلسوف الألماني فريجه، الذي كان يفرّق بين لغو الكلام الفارغ من المعنى، وتركيب اللا معنى، وكذلك الكلام المفارق للمنطق، وتركيب اللا منطق.

ومن أشهر المؤلفين، الذين مثّلوا في الجانب الألماني، أحسن تمثيل «اللا معنى»، الذي يُنسب إلى الأنكلوسكسونيين بالأساس، نجد المؤلف كريستيان مورجنشتيرن (1871 - 1914م) في سلاسل من قصائد النقد الساخر والتعريض في مجموعتين أسماهما: «مشنقة الأغاني» (Galgenlieder)، و«تيار النخل» (Palmström). وتمثل قصيدة «المرعب» (Gruselett) المأخوذة من مجموعة «مشنقة الأغاني» مثالاً نمطياً من الاستعمال الشعري للا معنى المعجمي.

وفي هذه القصيدة يطرح كلام مركب وفق قواعد اللغة الألمانية، لكنه لا يستقر منه أي معنى لدى المتلقي. ونطرح جزءاً منها مترجماً إلى العربية للتمثيل: «خفْق الجناح يصوء، من خلال الوارووَازوولتس، الفنقور الأحمر بلوزتارت، والغلس الفظيع يغلس». وتوجد سمة مهمة في هذا النوع من الإنتاج الشعري لدى مورجنشتيرن، هي التأثير الراديكالي، الذي استطاعت اللغة النقدية عند فريتز ماوثنر أن تحدثه في نظريته وتطبيقاته لما كان يسميه المعلّقون الألمان «اللا معنى الغنائي» (Nonsens-Lyrik). كما تنتمي إلى هذا النمط من الأقوال ما أسماه لويس كارول (jabberwock)؛ الذي ترجم أحد أبياته إلى الفرنسية هنري باريسو، وترجمه إلى العربية الدكتور محمد الشاوش في كتابه: «القول والقول الذي لا يقول شيئاً»، بالعبارة التالية: «تاه البوروغوف وكلهم برمطة». بالطبع هي عبارة لا يمكن لنا أن نفسرها، لكنها يمكن أن تحلل من دون صعوبة من الناحية التركيبية، رغم أنها تتضمن كلمتين لا معنى لهما. ويمكن أن نسمي هذا النوع من اللا معنى «لا معنى المفردات»؛ وهذا النوع من اللا معنى يمكن بالطبع أن يُنقل بكل يسر إلى لغة أخرى، وذلك بأن تترجم الكلمات التي ليس لها معنى ترجمة قائمة على الجناس الصوتي الصرف أو تغييرات، الهدف منها إكسابها شكل الكلمات الممكنة والمنتمية علاوة على ذلك، بطريقة واضحة بينة، إلى المقولة التركيبية المطلوبة في اللغة المعنية. لكن المترجم يمكن أن يجد نفسه أيضاً مرغماً على أن يحترم لا البنية التركيبية العادية للجملة، بل وكذلك شكلاً من المعنى لا نزال نسنده في بعض الحالات حتى إلى الكلمات، التي هي في الظاهر الأكثر تجرداً من المعنى.

وأود هنا أن أتواصل مع القارئ مرة أخرى: هل سبق أن سمعت شيئاً من شعرائنا المحدثين لم تفهمه، وظننت بنفسك الظنونا؟ لا تبتئس ولا تتهم نفسك بالجهل بأغوار اللغة، واستعمالاتها المجازية لدى الشعراء؛ فقد يكون بعض شعرائنا في أمسياتهم، التي يتباهون بتقديمها لمريدي الشعر الرومانسي على وجه الخصوص، يريدون الإيغال في صور شعرية لم يتبينوا هم أنفسهم حدودها، فتاهوا مع البوروغوف وتوّهونا!

@falehajmi