د. فالح العجمي

لعل كثيراً من القراء قد استمع إلى بعض الإعلاميين العرب، وهم يرددون كلاماً لا معنى له، لكنهم تعودوا على ترديده واستخدامه في برامجهم ومقابلاتهم. أحد أسباب مثل تلك الحالات في الإعلام العربي دون غيره من وسائل الإعلام العالمية، ربما يعود إلى فجوة كبيرة بين مستوى العربية العالي، وما يدركه ويستخدمه الإعلاميون ذوو التأهيل الضعيف، غير المهتمين بتطوير أنفسهم من خلال القراءات وطرق التفكير الحديثة، التي سنذكرها في ثنايا هذه المقالة.

تدور محاورات تلك الفئة الإعلامية التي أتحدث عنها حول عبارات ميتة، لا وجود لها في استخدامات المجتمع الحالية؛ وكذلك مجازات منتهية الصلاحية، لكونها تتعلق بصور لم تعد مغرية للخيال في العصر الحاضر، أو لم تعد تدهش السامع، فيعدها تحدياً للاستعمال المركب في اللغة. وما لم تتعمق الصور الواردة في لغة الحوار في الخيال الجمعي من جهة، وتصبح المجازات فيها والأفكار بصورة عامة مدهشة للسامعين ومتابعي تلك اللغة، من جهة أخرى؛ فإن العبارات المستخدمة لن تتمكن من مواكبة العصر. ومن هنا تصبح اللغة -في أقل الأحوال- باهتة، وقاصرة عن أن تثير الفضول لدى المتلقين، أو أن تنتج أفكاراً تواصلية. وهذا الوضع بالذات هو ما أسميه «التفكير في فراغ»، لأن المضامين شبه فارغة إلا من أصوات وكلمات تُصنع بوحي من قواعد اللغة، لكنها لا تحمل روح اللغة، ولا تصنع جسوراً تواصلية بين مفاهيم المنشئ والمتلقي، وأيضاً جمهور المتابعين المفترض لذلك البرنامج الإعلامي أو الحوار أو التقارير الإخبارية أو التحقيقات وما أشبه ذلك.

أهم ما يحدد سمات «التفكير في فراغ» من ناحية المضمون، أن تصبح مفاصل الكلام أو الحوار غير مترابطة، أو غير متصلة بعنوان الحلقة وموضوعها، أو ببقية أجزائها ومكوناتها من مشاركات الآخرين، أو بمقدمات الحديث ونهاياته؛ بحيث تفتقد إلى إحلال التناسب الدلالي المطلوب بين مكونات التركيب ليستقيم تأويل معناه. أما من ناحية الشكل، فإن أبرز ما يمكن ملاحظته في هذا الشأن أن يستخدم المتحدث عبارات فارغة (لا تحتوي إضافة إلى التركيب، أو لا تعني المخاطَب المفترض ولا تضيف له أي شيء بشأن القضية)؛ أو عبارات منتهية الصلاحية مثل تشبيه الجمال بالقمر، الذي ربما يكون صالحاً في فترة زمنية يظن الناس فيها أن القمر كتلة مضيئة، ولم يدركوا بعد أنه يتكون من حجارة صماء لا جمال فيها ولا ضياء. وفي النهاية، لا بد للمستخدم أيضاً من أن يراعي طرق التفكير المنطقية في عصرنا الحاضر؛ فالانطلاق من المسلمات القديمة لم يعد مقنعاً للجمهور المنتمي إلى الأجيال اللاحقة بأن يتابعوه، أو يثير فضولهم. وبذلك تكون أقل النتائج أثراً، أن يعزف المتلقي عن متابعة الحوار، وربما يحكم على صاحب الحوار بالضعف أو الغباء، لعدم تمكنه من متابعة المستجدات.

وأخيراً أشير إلى ما كنت قد أطلقت عليه وصفة «التفكير ثلاثي الأبعاد»، الذي يتسم بتمثل روح العصر أولاً في كل فكرة يتناولها مستخدم اللغة؛ وينحو إلى التزود بلغة سليمة ومباشرة في التعبير عن موضوع يمس حياة الناس ثانياً (ويفترض أن تكون جميع البرامج الإعلامية على اتصال بأحد موضوعات الحياة)؛ وفي الضلع الثالث يحرص على احتواء المادة الإعلامية على الكلمات السحرية (التي تغري السامعين أو المشاهدين بالمتابعة)، وهي بالمناسبة ليست مستحيلة، لكنها تُتعلم.

@falehajmi