د. محمد حامد الغامدي

 متى تموت الأشياء وتنتهي حياتها؟ سؤال أطرحه على نفسي، قبل طرحه عليكم. هذا ما أسعى لمناقشته، في وضع أشبه بالمقابلة الشخصية. قد يكون حديث الذات ونقاشها. قد يكون تجليات فلسفية، للتأمل والتفكر. قد يكون جزءا من تساؤلات طفرة ضياع الوقت. أتلمس دربي عبر مسارات متشعبة، لبداية الحوار والنقاش مع ذاتي، لأنقلكم إلى مسرح ذاتكم.

 بداية أتذكر بيت شِعْر، حفظته أيام دراستي المتوسطة، من ستينات القرن الماضي الميلادي. لم يكن أمامي كشاب متسع من المصادر للتزود بالمعلومات والمعرفة. يقول بيت الشعر: [نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة.. فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا]. قرأته مكتوبا على لوح خشبي في حوض سيارة لوري، منقوش وملون بشكل زاهٍ. حاليا أتساءل.. لماذا كتبه صاحب السيارة؟ هل كان يستعرض منهج حياته؟ هل كان يواسي الآخر؟ هل كان يقول (طز) لأحداث غير معلنة؟

 كانت السيارات تحمل الحِكَم، وأبيات الشِّعْر على سطح حديدها وخشبها الخارجي. تطوف بها للتفاخر. لكنهم بهذا كانوا ينشرون المعرفة، لمن يقرأ. يحثون على الصبر والمواجهة. يلطمون بها تحديات الظروف. سيارات كانت صفحات جافة، تنشر فلسفة رطبة لتجارب الحياة وغسيلها وتناقضاتها.

 قرأت بيت شِعْر آخر، رسخ في (نافوخي).. يقول: [أعلمه الرماية كل يوم.. فلما اشتد ساعده رماني]. لا أتحدث عن المدلول السائد في وقتنا الحاضر، لكن أتكلم عن موت أشياء مثل هذا المنهج. لماذا تحولت سيارات الماضي، على قلتها، إلى لوحات من الزخرفة العالية الجودة، والألوان الجميلة، رغم المعاناة؟ يطرزونها بالحكم وأبيات الشعر التي توحي وتقول.

 عندما أغوص حاليا.. في أعماق بحر برامج التواصل الاجتماعي.. أجد جيلي يصول ويجول.. بنشاط في صفحاتها الإلكترونية. وضع أشبه بتلك السيارات، لكنه (نشاط بكائي). كأن الجميع يعيش حالة عزاء مستمرة. أستطيع تسمية جيلي بـ (المُوَدِّعون). ودّعوا كل شيء عاشوه في طفولتهم. شيعوا الأشياء إلى مثواها الأخير. وضع أشبه بتوديع البشر إلى المقابر.

 نحن كبشر نبكي على فراق من نحب. لأننا لن نراه بعد دفنه. تزداد الحرقة مع قوة العلاقة ودرجة القرب. ننحب ونلطم ونحزن. بعضنا يشق الثوب ويرفع الصوت. ثم يأتي آخرون للعزاء. لنحتفل بالانتصار الوهمي على الموت. لكن لماذا تميَّز جيلي بهذا الوضع والوضعية؟ بكاء على الأشياء وليس على البشر. بكاء على فراق أشياء حياة الماضي؟.

 هناك من يبكي على قصة حياة مرقعة (بستين رقعة). هناك من يبكي على أكلات زهيدة.. اختفت. وعلى ملابس بسيطة.. تلاشت. وعلى كدمات وأوجاع حضنته حافي القدم. هناك من يبكي على (طعس رمل) نام على ظهره.. اختفى. وشجرة استظل تحتها صغيرا.. فقدها. وبيت أشبه بكهف عاش فيه.. تهدم. لكل بكاء نفسي قصة حنين صاخبة.

 نحن الجيل الذي عاش طفولته بأشياء، وأنهى عمره بفقدها. إنه (جيل التناقضات)، يعيش حياة أفضل، ويحن لأخرى كلها عوز وفاقة. لماذا يحن لماضيه الزهيد ومعاناته؟ جيلنا لا يبكي الشيء من أجل دوره ووظيفته، فقد هجره وسافر بعيدا عنه. في تناقض يصفه جيلنا بالزمن الجميل. بالتأكيد نحن نعظّم محاسن موتانا من أشيائنا البالية الطافحة بالزهد والتخلف الذي عشناه أطفالا.

 الخلاصة.. وزبدة كلام نتاج التفكر والتأمل. وجدت أن للتغيير عذابات نفسية، دفعها جيلي بكامل مستحقاتها.

 إن جيلي (نساء ورجالًا) أعظم الأجيال قاطبة. جيل قاد التغيير وعاشه، وأسس له وتبنّاه. جيل عزز نفسه وحياته، وحقق المكاسب، ودفن في التراب التخلف، وحياة الرمق الأخير وأشياءها الزهيدة.

 لنكن فخورين بأنفسنا.. نحن جيل قاد مجد التنمية والتغيير.. نحن من أسس بداية التاريخ الأفضل.. لأنفسنا.. وأبنائنا.. وأحفادنا.. ولأجيالنا القادمة. فهل لهذا المجد مثيل؟.

@DrAlghamdiMH