n هذا المشهد من رمضان عام (1962م). كنت في عمر السابعة، كان لأول فطور تناولته في مسجد القرية، الملاصق لبيت جدي. أصبح من نصيب عمي الأكبر. مات جدي قبل أن يرى أبي النور. رحمهم الله جميعا. تقول الرواية، بسبب الزائدة الدودية. كان مشهد معاناته، نتاج (الاستعمار العثماني) البغيض. جعلونا، ولقرون عديدة، موطن الجهل، والمرض، والفقر، والتخلف، والعزلة المقيتة.
n كان بيتنا الجديد من الحجر الصلد، بناه أبي عام (1959م)، في شِعْبٍ منفصل عن جسم القرية. ما زلت أحمل مشاهد مرعبة، عشتها طفلا في هذا البيت. جميعها كانت (أثناء الليل). كنت أسمع أزير السيول، توحي بأنها لن تبقي ولن تذر، وأصوات السباع وكلاب القرية. حيث يجفل النوم مع مطارداتها الليلية، من أمام وخلف بيتنا إلى الوادي جهة الغرب، والجبال جهة الشرق.
n وسط ذلك الحمل.. (اقتنصت) طرف حديث، بأن فطور رجال القرية، وجميعهم (شيبان) بأعمار متفاوتة، سيكون بالمسجد كعادتهم. لا شباب في القرية. جميعهم مسافر. لم يبق غير الآباء، والأمهات، والنساء، والصبايا، والأطفال أمثالي.
n وصلت المسجد. سلمت على (الشيبان)، لا يزيدون عن العشرة. رحمهم الله. جاء أحدهم بطبق يحمله، ويعتليه كومة من (تمر بيشة) الصفري الشهي. جاء آخر (بحلّة) الماء. وآخر (بقرصان البر). غابت القهوة وفناجينها. وقبل الإفطار بدأوا في تقطيع الخبز. ثم وضعوا حبات من التمر على ظهر كل كسرة، فتوزعت مناولة لكل حاضر. جاء صوت ضربة (مدفع رمضان)، من رأس جبل بعيد، يطل على المنطقة بكاملها. بدأوا بسم الله، ثم كانت (جغمة) الماء قبل الصلاة.
n كان صاحب التمر -رحمه الله-، سخيا معي. أعطاني عددا من الحبات المتماسكة، زيادة عن البقية. كان فرحا بوجودي. قال أنت ولد حامد. قلت نعم. هو يعرف ذلك، لكن سؤاله يؤكد شيئا في خاطره. قال: خلّك رجّال مثل أبوك. كانوا يزرعون الرجولة والمرجلة، كما يزرعون زرعهم في جوف الأرض. قدّم لشخصي (الكرامة). جسّدها في شخص أبي (المسافر). رسم بهذا خطوط المحاذير، كعادة هؤلاء (الشيبان) في مدرستهم البيئية، والاجتماعية.
n ما زلت أذكر مشهد أجسامهم النحيلة الممشوقة. لا ترهّلات. جلد مشدود على عظم. عيونهم تبرق أملا. وجيههم حنطية مستطيلة. أنوفهم شماء، تعتلي مساحة وجه يغطيه (شَعْر). يمثل كبرياء الوجود. تقول العرب في مدحها لرجالها: (لحية غانمة). اللحية في زمنهم تمثل اكتمال الرجولة والمرجلة. تمثل اكتمال نصاب المسؤولية. ويقول المثل الشهير: كرامة غامد في لحاها.
n كنت أرى أجساما منهكة ومتعبة، لكنها قوية ونشطة، تواقة وعصية وأبية. كانت تعمل طوال النهار في الحقول الزراعية. ثيابهم جزء من أحوالهم الاقتصادية. حيث يتوارثون العوز والتعب والصبر. تراهم وقد حزموا وسطهم بحزام جلدي يربط البطن بالظهر. كأنه يعمل لخنق الجوع والتعب الذي يعانون.
n مظهرهم صورة من بيوتهم الحجرية. قامات كأنها منحوتة. تبدو في جفاف وجفاء، وبأس، وصرامة ملامح. لكن داخلها قلوبا خضراء صافية، كنبع مياه آبارهم في واديهم الأخضر. عندما يجتمع الأضداد في لوحة، فهذا يعني اكتمال مزيج الحياة بتوازن وبصيرة ملهمة. تجمعهم عبادة الله. العمل عندهم محور العبادة والتعبد.
n إنهم شيبان القرية الذين عرفت. كانوا يرون في أطفالهم الأمل. ويأتي الحث بالسفر. ليخرجوا من دائرة الفاقة والتعب والحاجة والجهل والمرض. أي ألم يعيشون وهم يحثون أجيالهم بالفرار من القرية، طلبا لرزق يحفظ الكرامة، ويطيل عمر الشهامة والنخوة والرجولة والمرجلة؟ يودعونهم دون دموع، في حال يبكي لها الصخر. كنت يوما ذلك الطفل، ومازلت.
@DrAlghamdiMH
n كان بيتنا الجديد من الحجر الصلد، بناه أبي عام (1959م)، في شِعْبٍ منفصل عن جسم القرية. ما زلت أحمل مشاهد مرعبة، عشتها طفلا في هذا البيت. جميعها كانت (أثناء الليل). كنت أسمع أزير السيول، توحي بأنها لن تبقي ولن تذر، وأصوات السباع وكلاب القرية. حيث يجفل النوم مع مطارداتها الليلية، من أمام وخلف بيتنا إلى الوادي جهة الغرب، والجبال جهة الشرق.
n وسط ذلك الحمل.. (اقتنصت) طرف حديث، بأن فطور رجال القرية، وجميعهم (شيبان) بأعمار متفاوتة، سيكون بالمسجد كعادتهم. لا شباب في القرية. جميعهم مسافر. لم يبق غير الآباء، والأمهات، والنساء، والصبايا، والأطفال أمثالي.
n وصلت المسجد. سلمت على (الشيبان)، لا يزيدون عن العشرة. رحمهم الله. جاء أحدهم بطبق يحمله، ويعتليه كومة من (تمر بيشة) الصفري الشهي. جاء آخر (بحلّة) الماء. وآخر (بقرصان البر). غابت القهوة وفناجينها. وقبل الإفطار بدأوا في تقطيع الخبز. ثم وضعوا حبات من التمر على ظهر كل كسرة، فتوزعت مناولة لكل حاضر. جاء صوت ضربة (مدفع رمضان)، من رأس جبل بعيد، يطل على المنطقة بكاملها. بدأوا بسم الله، ثم كانت (جغمة) الماء قبل الصلاة.
n كان صاحب التمر -رحمه الله-، سخيا معي. أعطاني عددا من الحبات المتماسكة، زيادة عن البقية. كان فرحا بوجودي. قال أنت ولد حامد. قلت نعم. هو يعرف ذلك، لكن سؤاله يؤكد شيئا في خاطره. قال: خلّك رجّال مثل أبوك. كانوا يزرعون الرجولة والمرجلة، كما يزرعون زرعهم في جوف الأرض. قدّم لشخصي (الكرامة). جسّدها في شخص أبي (المسافر). رسم بهذا خطوط المحاذير، كعادة هؤلاء (الشيبان) في مدرستهم البيئية، والاجتماعية.
n ما زلت أذكر مشهد أجسامهم النحيلة الممشوقة. لا ترهّلات. جلد مشدود على عظم. عيونهم تبرق أملا. وجيههم حنطية مستطيلة. أنوفهم شماء، تعتلي مساحة وجه يغطيه (شَعْر). يمثل كبرياء الوجود. تقول العرب في مدحها لرجالها: (لحية غانمة). اللحية في زمنهم تمثل اكتمال الرجولة والمرجلة. تمثل اكتمال نصاب المسؤولية. ويقول المثل الشهير: كرامة غامد في لحاها.
n كنت أرى أجساما منهكة ومتعبة، لكنها قوية ونشطة، تواقة وعصية وأبية. كانت تعمل طوال النهار في الحقول الزراعية. ثيابهم جزء من أحوالهم الاقتصادية. حيث يتوارثون العوز والتعب والصبر. تراهم وقد حزموا وسطهم بحزام جلدي يربط البطن بالظهر. كأنه يعمل لخنق الجوع والتعب الذي يعانون.
n مظهرهم صورة من بيوتهم الحجرية. قامات كأنها منحوتة. تبدو في جفاف وجفاء، وبأس، وصرامة ملامح. لكن داخلها قلوبا خضراء صافية، كنبع مياه آبارهم في واديهم الأخضر. عندما يجتمع الأضداد في لوحة، فهذا يعني اكتمال مزيج الحياة بتوازن وبصيرة ملهمة. تجمعهم عبادة الله. العمل عندهم محور العبادة والتعبد.
n إنهم شيبان القرية الذين عرفت. كانوا يرون في أطفالهم الأمل. ويأتي الحث بالسفر. ليخرجوا من دائرة الفاقة والتعب والحاجة والجهل والمرض. أي ألم يعيشون وهم يحثون أجيالهم بالفرار من القرية، طلبا لرزق يحفظ الكرامة، ويطيل عمر الشهامة والنخوة والرجولة والمرجلة؟ يودعونهم دون دموع، في حال يبكي لها الصخر. كنت يوما ذلك الطفل، ومازلت.
@DrAlghamdiMH