نورة إبراهيم

من المتفق عليه في العلوم الإنسانية أن قابلية ارتكاب الشر أمر متجذر وكامن في طبيعة الإنسان، أي أنه ليس حدثا عارضا، بل موجودا وجود الشيء في ذاته، وحتى تتكشف هذه النزعة لا بد من وجود ظروف مناسبة ومهيئة لها، كما هو الحال في نزعة الخير أيضا.

ولعل ما يحدث في المظاهرات الأمريكية بسبب حادثة قتل الأمريكي - الإفريقي جورج فلويد على يد أحد أفراد رجال الشرطة من أفعال وحشية وعنيفة، وموجات تخريب واعتداء ونهب لمراكز التسوق المختلفة يعد إثباتا لوجود مثل هذه النزعة في النفس البشرية عند انفلات الوضع الأمني، رغم القيمة النبيلة التي تحملها قضية هذا الرجل إلا أن بعض المتظاهرين لم يتوانوا ولو لحظة في تشويهها وخروجها من سياقها السلمي إلى السياق العنيف المتوحش ضد المجتمع وأمنه الوطني، وهنا تكمن خطورة ارتباط نزعة الشر الكامنة بظروف تساعدها على التضخم، ومن ثم الانفجار في وجه كل شيء.

وما يزيد من خطورتها أيضا وجودها في التنظيمات والجماعات، أو كما يسميها قوستاف لوبون (الجماهير) في كتابه سيكولوجية الجماهير، نظرا لما يطرأ على الفرد الواحد من تغييرات لا واعية في تفكيره وتصرفاته عند اندماجه وامتزاجه في تكوين جمهور معين، ويعتبر لوبون هذه العملية مشابهة جدا في تأثيرها بعملية التنويم المغناطيسي، وذلك لأنها لا تستخدم في مضامينها خطابات ولغة موضوعية عقلانية، بل العكس تماما فهي تعتمد على تحريك المشاعر والعاطفة الموجودة في أنفس هذه الجماهير، وتحفيز انطباعات قديمة وتجديدها، تماما. كما هو الحال في الانتفاضة الأمريكية حيث شاهدنا الغالبية العظمى تقوم بتصرفات لم تكن لتقوم بها بمفردها، لأن حضور الجماعة واتحادها خلف فكرة ومعتقد معين يقوي من عزيمتهم على كسر الحدود والقوانين التي تسن من قبل ما يعتبرونه بالعدو، لأنهم بذلك يضمنون تفاديهم العقوبة والمحاسبة، فيتصرف الفرد وفقا لقاعدة «لأن الجميع يفعل ذلك، لذا سأفعل أنا ذلك أيضا»، وهنا تخرج كل نزعات الشر والعنف المختبئة.

خرج السود بناء على استحضار أذهانهم لتاريخ اضطهاد واستعباد طويل في قرون مضت، إلا أن الوضع يختلف في الوقت الحالي، فالسود يتبوأون مناصب حكومية عالية، ولست هنا أتحدث عن أوباما فقط بل عمن هم قبله ككونداليزا رايس التي عملت في منصب وزيرة الخارجية من عام ٢٠٠٥ وحتى ٢٠٠٩، ومن قبلها كولن بأول، وكذلك هو الحال في المناصب القانونية والعسكرية الرفيعة، فما يحدث على الشوارع وبتصرفات فردية بحتة لا يمكن تعميمه على نظام دولة كاملة، وقد نستطيع القول بأن الحكومة الأمريكية تضطهد السود فعلا، في حالة تجاهلها لحادثة القتل وعدم القبض على الشرطي المسؤول وتوجيه التهم له، وفي حالة اقتصار مثل هذه الحالات الفردية على السود فقط، إلا أن عقلية الجماهير لا تستوعب الحقائق الموضوعية فهي تنحاز دائما لما تعتقده وتؤمن به عوضا عن ذلك.

ومن هذا المنطلق تمكن الإعلام المضاد للحكومة الأمريكية الحالية من تجييش مشاعرالمتظاهرين بطريقة ممتازة جدا، بجانب تاريخ السود المؤلم، مما جعل الأمر مقتصرا على لون بشرة بعينها، فهي بأدواتها تركز على قضايا معينة تخدم أجنداتها في المقام الأول، وبالتالي، وبطريقتها الخاصة تعزز من شدة المعركة في الشوارع بالتخريب، والنهب، والترويع.

في النهاية.. ما يحدث في أمريكا الآن، من الممكن جدا أن يحدث في أي مكان آخر، وقد حدث قبل أعوام مضت فيما يسمى بـ«الربيع العربي» المشؤوم، فالجماهير موجودة في كل مكان هي فقط تحتاج إلى ظروف معينة وأدوات مناسبة.

@naevius_