عفراء المنصور

في نهاية التسعينيات من القرن الماضي عندما كنت طفلة في العاشرة من عمري وكنت في كنف جدتي عفراء البوعينين -رحمها الله- كنت أقضي معها شهر رمضان كاملا في مدينة الجبيل، تلك المدينة الوديعة الهادئة الغائرة في عمق التاريخ الإنساني الواقعة على ساحل الخليج العربي.. كانت تترك يوميا مكانا خاليا في سفرة طعام الإفطار، وكانت تكسر صيامها بحبة تمر وكأس من الماء وفنجان قهوة عربية ثم تقوم على الفور لأداء صلاة المغرب، وكان ما أن يغيب الغسق حتى تنهال علينا أطباق العصيدة والهريس من جيراننا الأحسائيين، كانت جدتي -رحمها الله- ما أن تنتهي من صلاتها حتى تبدأ بتناول العصيدة والهريس باستمتاع وتطري بالمديح على ذلك الطعام وتقول: (ما في أزين من العصيدة والهريس الحساوي)، ولا يمكن على الإطلاق أن تعيد لهم أطباق الطعام خالية، بل يجب أن تضع بها شيئا من طعام قد طبخته قبل أن تعيد الأطباق لهم مرة أخرى.. كان أولئك الجيران من أهل المذهب الشيعي.. كانت زهراء (أو كما كانت تناديها جدتي «زهيرة») هي وأم صالح -(رحمهما الله إن كانتا قد توفاهما الله، وأمد الله بعمرهما بالصحة والعافية إن كانتا على قيد الحياة)- تزوران جدتي -رحمها الله- بشكل دوري وتتبادلان أطراف الحديث مع بعضهن البعض ولكن اختلاف المذاهب لم يكن ضمن حيز اهتماماتهن.. حتى أنني أذكر أن زهيرة كانت عندما تسافر في إجازة أو في زيارة كانت تذكر جدتي دائما بهدية (أو كما يطلق عليها بلهجة أهل الخليج صوغة)، مرت الأيام وتقاعد زوج زهراء عن العمل وتوفي أبو صالح في حادث سير وعادتا إلى موطنهما الأحساء وانتقلت جدتي إلى رحمة الله.. منذ حرب العراق الأخيرة لعام 2003 بدأنا نسمع بمصطلحات دخيلة علينا يتم تداولها بكثرة، وظهرت برامج الحوارات والتي هي أشبه ما تكون بحلبة مصارعة بين الدجاجات.. واستمرت هذه الموجة وأصبح كل من يخالف الآخر يتهم بالتخوين (أنت مختلف إذن أنت خائن) وظهر في الآونة الأخيرة مصطلحات دخيلة أخرى عبارة عن صراع بين أبناء القبائل.. حسابات بأسماء وهمية ومبهمة تضع على خلفية ذلك الحساب في تويتر صورا رمزية وتبدأ بالهجوم والتخوين والتأليب على الطرف الآخر والتنبيش فيما يقوله من آراء، ولا ندري لمصلحة من يحدث هذا ولكن الأكيد ليس لمصلحة الوطن.. جدتي في آخر أيامها عندما كانت على فراش المرض وكانت موجة الاحتقان الطائفي على أشدها سألتها هذا السؤال: يا جدة ألا تخافين من جيرانك وأنت تأكلين من طعامهم؟ فردت علي قائلة: كل خلقه الله. قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) سورة الروم (آية 22).

@afraalmansour