د. فالح العجمي

كنا قد تحدثنا في الجزء الأول عن قيمة الرمزية في فكر الإنسان المعاصر، وكيف غيّرته من كائن بدائي لا يعرف من جوانب الشيء أو الفكرة أو الحدث إلا قيمتها المادية فحسب، إلى كائن متطور يحتفظ بصور الأشياء والأفكار وسماتها، ليقارنها مع مثيلاتها في أماكن أخرى أو في أزمنة أخرى. كما تحوّل مع توسعه في ظاهرة الترميز (وبعون من اللغة بكل تأكيد) إلى مستخدم ذكي لظاهرة التجريد، التي تعمقت أهميتها مع تطورات الجنس البشري المتتالية، إلى أن أصبحت أحد مكونات العقل المعاصر. ومن أمثلة ظاهرة التجريد في حياة الإنسان المعاصرة، أنه يختار الأثاث ليخدمه بوصفه رموزاً مرئية لذوقه وثروته ومكانته الاجتماعية. ويشتري السيارات الجيدة من الموديلات الحديثة، ليس دائماً من أجل انتقال جيد بواسطتها، بل ليعطي برهاناً للمجتمع بأنه يستطيع توفير تلك الرفاهية. المشكلة في هذه القضية -كما تقول سوزان لانجر- إن وظيفة صنع الرمز واحدة من النشاطات البدائية المتأصلة في الإنسان؛ فهي إجراء جوهري في العقل البشري؛ فالمرء يمكنه أن يحاول العيش حياة بسيطة مع اهتمام قليل برموز الرفاهية، والوضع الاجتماعي، وما أشبه ذلك. لكنه سيكتشف سريعاً أن رفضه تلك الرمزية هي «رمزية» أيضاً بنفسها. فلبس ربطة العنق هو عمل رمزي، لكن عدم لبسها يماثله أيضاً في الرمزية المضادة. ويقع كثير من الشجار الحاد بين الوالدين وأطفالهم حديثاً بشأن قصات الشعر: طويل، أو قصير، أو مدبّب، أو مقصوص بالكامل؛ ومثل ذلك الشجار ليس عن الشعر نفسه أو شكل القَصّة، بل عن رمزية كل نوع من تلك القَصّات أو انتماء صاحبها إلى فئة بعينها.

ومن هنا نشأت قضية «تجريد الأفكار» لدى الإنسان، بوصفها المرحلة الثانية من مراحل التجريد، التي يُخلق فيها عالم موازٍ للعالم الحقيقي يمتلئ بالاستعارات والفكر المجازي؛ فهذه الرمزية ترفع من قيمة الشيء الذي يرمز إلى أشياء أخرى، وكلما ارتفعت قيمة تلك الأشياء المرموز إليها، تعالت أيضاً قيمة الرموز نفسها. وقد ساعد هذا التطور الإنسان في مراحل مختلفة إلى ابتكار القصص المتخيلة والأشعار ومختلف أنواع الآداب، والأساطير والأديان والممارسات المرتبطة بها من شعائر وطقوس موغلة في الرمزية والتجريد. وربما تكون ظاهرة الطوطمية أشهر التحولات الرمزية، التي عايشها الإنسان في مجال تجريد الأفكار.

وإذا ربطنا هذا التحليل بما يحدث حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية من أعمال فوضى وتخريب، خاصة فيما يخص حرص كثير من الجماعات المنخرطة في ذلك الشغب على إزالة رموز الهيمنة للرجل الأبيض (الذي كان قد جاء من أوروبا مستعمراً للعالم الجديد، ومحاولاً قتل أو إقصاء السكان الأصليين عن مناطق سكناهم أو عن مصادر الثروة، التي كان يحرص على الحصول عليها، خاصة مناجم الذهب والفضة)، وعلى رأسهم بالطبع كريستوفر كولومبوس، الذي تمثل تماثيله في مدن أمريكية متعددة رمزاً للفظاعة والظلم، التي تعرض إليها السكان الأصليون من هؤلاء المستعمرين الأوائل (وهي في الوقت نفسه رموز تمثل الريادة والفتح الجديد للحضارة الغربية الأوروبية الأصل). وقد قام المتظاهرون في فرجينيا بتحطيم تمثال كريستوفر كولومبوس، ورميه في البحيرة، كما قام مجلس مدينة لوس أنجلوس بإزالة التمثال قبل ذلك، لاعتباره نقطة سوداء في تاريخ القارة الأمريكية. فالتمثال هو التمثال، لكن رمزيته تتوقف على زاوية النظر إليه.

falehajmi@