سالم اليامي

هناك عبارات كلاسيكية تكتب عادة في مناسبات بعينها، من ذلك عبارة: ذكرى والذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان. تكتب عادة على ظهر الصور، وفِي أغلب التقدير لا يفهم معنى العبارة التي أشرنا إليها إلا بعد أن يمر زمن على الصور. في الأيام القليلة الماضية أرسل إليّ زميل عملت معه قبل أربعة عقود تقريبا في حقل التدريس، كنت أنا مديرا لمدرسة فِي حي أقرب ما يكون للبر الفسيح. ويميز الحي وكان يسمى بحي الفواز في منطقة نجران أنه يقع في سفح جبل منيف، ينتصب فوق الحي بارتفاع شاهق، المهم أن هذه المدرسة صغيرة في حجمها وعدد طلابها وبطبيعة الحال طاقم التدريس فيها.

أرسل لي الزميل علي عياش مجموعة صور لتلك الأيام الخوالي الصورة الأولى كانت للزميل العزيز مع عدد من الطلاب في بهو المدرسة عرفت من الأشكال بالكاد البعض ولكن لم أتذكر الأسماء والمهم أن الصغير فيهم الذي يدرس في الصف الأول حينها يبلغ 45 أو أكثر من عمره اليوم، المفيد في هذه الصورة أنها ذكرتني بالعلاقة المتميزة بين السيد وكيل المدرسة والطلاب الذين كانوا يكنون له الود والاحترام وهو الذي لم يك يحمل عصا في يده ليضرب بها أحدا.

الصورة الثانية كانت في مناسبة مدرسية يلتقي فيها الآباء بالمعلمين وظهر في الصورة أحد أبرز الآباء -رحمه الله- وهو من رجالات الحي، والقبيلة التي تقطن الحي، ومن رجالات المنطقة وكان يكنى بأبي سالم، واسمه الشيخ ناصر آل منصور -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته-، كان يسألني دائما عن والدي حيث كانت بينهما صداقة، واغتراب للعمل خارج المنطقة أيّام الشباب وكان يحثني على البر بأبي ويدعو لي بالتوفيق غفر الله له.

الصورة الثالثة كانت تضم شخصين اثنين فقط الأول العم أبو سلمان حارس المدرسة وأنا بجواره، والعم أبو سلمان قصة وحكاية كما يقال، كان بعد أن ينهي جولته حول سور المدرسة ويسقي نبتات حديثة زينت الفناء الداخلي للمدرسة الصغيرة، كان يتخذ مكانه عند الباب الخارجي للمدرسة، حيث الأفق مفتوح على امتداده بدون عوائق كثيرة حتى تظهر حقول النخيل بعد الوادي ثم تبرز جبال شمال المنطقة شامخة في آخر الأفق. دلة القهوة الصغيرة حاضرة مع العم أبو سلمان دائما، وكان يتحرك بهدوء يتناسب وقصر قامته ويفتح باب سيارته المعروفة محليا بالشاص «تايوتا» ويخرج الثلاجة من خلف مقعد السائق، ومعها أكثر من فنجان، ثم يصب القهوة ويخصني بالفنجان الأول، ويصب لنفسه الفنجان الثاني، الذي عادة ما يصبه ويرفعه إلى فمه مباشرة، ثم يبدأ بسرد ما مر به بالأمس من أخبار، العم أبو سلمان يبدأ عادة بالأخبار المتداولة في المنطقة ثم يحدثني عن ماذا دار في حيهم من تطورات حيث يعيش هو وأسرته ومجموعة أسر من عشيرة واحدة، وعندما يلاحظ أن لدي متسعا من الوقت وأنني أرتشف فنجان القهوة أو القشر النجراني بهدوء يبدأ برواية القصص التي يعرف أنني أود سماعها وغالبا تتحدث عن تاريخ المنطقة والنَّاس، وعن سنوات القحط، والرخاء التي مر بها الناس، كان يحدثني غفر الله له عن الزراعة وكيف كان ملاك الأراضي يؤجرونها للعمال الذين يحسنون زراعتها ويتعهدون بالعناية بها حتى يطرح المحصول ثم يأخذ العامل نصيبه المتفق عليه. يحتفظ الرجل بذاكرة لمعظم الأحداث المهمة في المنطقة، ويصف أحيانا بحبور كيف كان شابا مفتول العضلات يساعد والده، وعمه في زراعة الأراضي، ويتعهدون النخيل بالعناية والاهتمام، وكان أحيانا يتوقف عن الحديث، ويقول عبارات من قبيل أيّام عشناها بالحلوة، والمرة. وهذه إشارة يفهم منها أن الرجل قال كل ما لديه في تلك الجلسة. هي مجموعة صور حلوة، حركت الكثير من براكين الكلام، وهي دليل على أن الصور ذكرى تدق في مواجهة النسيان، نسيان الأماكن، ونسيان الناس.

salemalyami@