عباس ناصر

العرب يستخدمون رموز بيئتهم ليعبروا عن مواقف حياتهم. يطوعون اللغة كما يطوعون العجين، ولديهم قدرة عالية على اللعب على الأوتار اللغوية المترادفة والمتناقضة برشاقة قل نظيرها.

قديما قيل إن للعرب مستحيلات ثلاثة: الغول، والعنقاء، والخل الوفي. الغول هو كائن ضخم يتسم بالوحشية والبشاعة، جاء في العديد من القصص الشعبية القديمة، ولا وجود له في الحقيقة، ولا يُعرف له مصدر، لكن العرب يذكرونه في حكاياتهم. والعنقاء كذلك؛ فهو طائر رمزي لا وجود له، ذو عنق طويل، وجسم ضخم، يصيب بالفزع كل من يراه. والمستحيل الثالث هو الخل الوفي، أي الصديق الذي يضمر لصديقه الوفاء والود. ولا أعرف السبب الذي جعل منه ثالثا يأتي بعد مخلوقين أسطوريين مخيفين!

لا أراني متفقاً مع المستحيل الثالث في حقيقة الأمر؛ لأنني أؤمن أن الأوفياء موجودون في حياتنا، ولا يخلو منهم أي مكان. نعم، قد نصادف في حياتنا قليلي الوفاء وناقضي العهود، لكن تعميم الأمر شيء عسير يصعب القول به، فمن الإجحاف أن نَصِمَ مجتمعاتنا العربية الإسلامية الأصيلة بالخيانة والجفاء، وبأنها قليلة عهد ووفاء، لأن ثلة من الأشخاص اتصفوا بذلك! تعميم ذلك أمر غير سائغ فضلا عن القول بأنه ضرب من ضروب الخيال، ونوع من أنواع الوهم الذي لا يتجسد واقعا ملموسا، ولا يوجد إلا في قصص القُصّاص، كما أن العنقاء والغول لا توجد دائما إلا فيها!

وترسيخ هذه القناعات في المجتمع، وتأكيدها الدائم إما في المجالس، أو في مواقع التواصل، ونحو ذلك كفيل بجعلها فكرة سائغة، ومتداولة، بل جزءا من الوعي الجمعي، وهو في مبدئه أمر غير صحيح، فتراثنا الإسلامي يزخر بشخصيات عظيمة تركت لنا إرثا غنيا نستمد منه أسمى المثل الإنسانية وأعلاها، وعلى رأس الهرم نبينا الكريم محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم السلام الذي تتجلى في حياتهِ كلُ معاني الوفاء بالعهد لأصحابه ولأعدائه على حدٍ سواء. وكذلك سيرة الصحابة الكرام الذين تشربوا هذه المعاني السامية من نبع الطهارة والنقاء. وأدبنا العربي زاخر بشعر الوفاء وأمثاله وقصصه ما نعجزُ عن عده وبيانه.

abb.nas12@hotmail.com