نادية مشاري العتيبي

لطالما استوقفتني الكلمات عند أبواب معانيها طويلا، انتباهي لتفاصيل الأشياء يعيدني كل مرة رغما عن رغبتي في التجاوز، وأراني مطواعة جدا ولا أخالف حتى أجد الذي يرضي ما بنفسي..

رأيتها على طاولة المقهى في أحد الملتقيات الأدبية، كان الجميع مشغولا إما بالقراءة أو المناقشات الجانبية التي يبدو أنها مسلية لأنني أسمع الضحكات تتعالى، وإن الضحك لمعدٍ !، لفتتني ملامحها التي غطتها غيمة رمادية، وكانت تقلب صفحات الكتاب بلا هدف وتعيد تقليبها وهي لا تنظر إليها حتى، ساقني الفضول لألقي عليها التحية، حيتني بمثلها واستأذنتها بالجلوس على طاولتها، لم أر عينين آلمني النظر إليهما مثل ما آلمني النظر لعينيها، ما الذي جعلهما بذلك البهتان! لا بريق فيهما ولا روح ! سألتها مباشرة، ما بك؟ نظرت إلي بانتباه وكأنها تقول: كيف عرفت؟ أطرقت برأسها واستأذنت بالذهاب، ودعتها بهدوء وابتسامة تبادلناها ثم خرجت. جلست أقلب الكتاب بعدها ووجدتها كتبت على إحدى الصفحات (مكانك خالي)، لعل هذه الجملة أجابتني عن تساؤلاتي السابقة لها..

(مكانك خالي)، إن العمق الذي يتجلى في معنى هذه الجملة لا يمكن أن يكون سهلا بأي حال، كم من مكان خلا من صاحبه وخلف وراءه ما خلفه من تبعات، لكن هناك أسئلة تتبادر إلى ذهني الآن، من هو الذي نستطيع أن نقول إن مكانه خالٍ؟ وهل نحن فعلا نحب وجود هذا الشخص لذاته الخالصة أم لأنفسنا بوجوده وللشخص الذي نكون عليه معه؟!

هذا الشخص أيا كان، لا بد أنه يتحلى بصفات إنسانية وتميز وقيمة حضورية تلغي بوجوده كل من سواه، سهل المعشر، خفيفة روحه تألفه الأنفس وتدركه العقول، إن أقبل استبشرت به الأعين وبادرته الابتسامات احتفاء به كأنما أضاء الدنيا بحضوره ! ثم استقبلته الأرواح قبل الأجساد، وإن ذهب، سكن المكان بعده وأصبح كل شيء عاديا وعادت رتابة الأشياء إليها ثم أصبح كل دعائك ليته لا يذهب، إنهم يلمسون القلوب بأيديهم بمقدار قربهم أو بعدهم، زينهم الله واهب المحبة بقدر بالغ من الشفافية والرحابة، نراهم ناصحين، صادقين، مرشدين، محاورين تحب حديثهم ولا تمله، يخشون عليك من أبسط همومك، يسعدهم خيرا تناله، وترى انبساطك وسعة صدرك داخل حدود تواجدهم..

يقول ابن حزم في كتابه طوق الحمامة في شرح ماهية المحبة لبعض الأشخاص دون غيرهم أو الألفة بوجودهم بأنه، «اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع».. إذن الجوهر فيه هو الاتصال والانفصال وأثر كل منهما فيما بعد.. يقول أحدهم، كانت لي أم أرى أني لا أحيا بعدها يوما واحدا ويؤنس روحي مناداتها لي، وعندما توفيت، عشت بعد ذلك أعواما لا أستطيع أن التفت لمكان جلوسها حتى لا أراه وقد غادرته، وبقيت أدعو الله لها في كل حين، إن مكانها خالٍ..

يتذكر أحدهم قائلا، تصاحبت سنينا وأخ لم تلده أمي، أثناء سنوات دراستي خارجا، كان بعد الله معينا لي، دلني على كل خير وعاتبني عتاب المحب الناصح عندما كنت أتخبط في طريقي، لم يكن له مصلحة ولا غاية، كان هينا بشوشا، وعندما عدت لبلادي رغم فرحتي العارمة إلا أن مكانه الخالي لم يملأه أحد، وأشكر الله أن تواصلنا لم ينقطع رغم المسافات وانشغاله مع عائلته وأبنائه، رعاهم الله جميعا..

تقول أم علتها المهابة واللطف، ابني الأكبر متزوج ويسكن قريبا من منزلي، ولي غيره ثلاثة أبناء يعيشون معي، إنني أفتقد مزاحه وضحكاته الطيبة في أرجاء بيتي، أعلم أنه سعيد وأيامه مليئة بالمحبة، رغم قربه، إلا أن مكانه خالٍ..

أغلقت عيني قليلا لأسترجع صورة في ذهني لكوب شاي طعمه مختلف تماما عن أي شاي آخر، عرفت سبب عزوفي عن شربه الآن، كنت اعتدت أنا وصديقة محببة إلى قلبي أن نشربه سوية ولطالما كان موعد الشاي معها وقتا مميزا يتخلله حديث صادق لا يشوبه شك والكثير من الفرح، لم يكن الشاي هو المميز ! بل أنت يا صديقتي ووقتي معك والشخص الذي أكون عليه برفقتك، كان الشاي عذرا فقط، مكانك خالٍ..

عدت بعد عدة أيام إلى المقهى وجلست طويلا أتصفح كتاب رفيقتي الأولى، فإذا بها تأتي حاملة كوبين من القهوة وقد أشرقت أساريرها، وقفت لتحيتها ثم تبادلنا حديثا شيقا، بالنسبة لي لو كان مدبرا ما كان سهلا هكذا ولما استكفيت لشغفي بمعرفة ما جرى معها، لكنه كان حديثا عفويا لم أحاول فيه سؤالها عن أي شيء، كان اندفاعها بالكلمات وابتساماتها المتكررة عاكسا ما بداخلها من رضا..

إن الأماكن الخالية ليست إلا لأصحابها الذين سكنوها وأحسنوا سكناها لذلك استحقوا ثباتا أبديا فيها لا يزول ولا يمحى، الإنسان الفاضل مكانه خالٍ، الكريم مكانه خالٍ، الصديق الطيب مكانه خالٍ، الموظف المجتهد مكانه خالٍ، الأخت الحنونة مكانها خالٍ، الجارة الطيبة مكانها خالٍ، كل نادر وثمين مكانه خالٍ..

‏لا أوحش الله من رؤيا محاسنكم..

طولا وعرضا ولا غابت لكم شيم..

Nadia_Al_Otaibi @