محمد الحرز

الوطن ليس تاريخا فقط، بل جغرافيا، ليس ذاكرة، بل حياة ملموسة ومجسدة واقعيا. الوطن مدنه الكثيرة وقراه العديدة وتضاريسه ومناخاته كلها مشدودة بعضها إلى بعض، مثل وثاق محكم حول المعصمين. لكنه وثاق يحمي وليس يحد، وثاق يجمع وليس يفرق، وثاق يصنع الثقة والقوة في اليدين وليس الضعف.

الجغرافيا هم أفراد وجماعات، وسطهم البيئي محكوم بتضاريس المكان، يعيشونه في حياتهم اليومية متأثرين به، ويظهر على ملامحهم، ويرتبط بقيمهم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والروحية.

الجغرافيا قصص ووقائع وأحداث لا تروى إلا على ألسنة الأمكنة بعمرها المديد الضارب في القدم، أو على ألسنة هؤلاء الذين تربوا وترعرعوا بين تضاريسها، ونشأت بينهم وبينها رابطة حب لا يمكن نزعه من الروح، حتى لو عصفت ببعضهم ضروب الدهر ونأوا عن دارهم وأهاليهم. لكن هذه الرابطة تظل تتغلغل في الروح شيئا فشيئا كلما تقادم الزمن.

لكن بالنهاية، أليس التاريخ مكملا للجغرافيا حين يكون الكلام مقصودا به الوطن؟ أليس من الحكمة حين نروي لأطفالنا سيرة الوطن من خلال محطاته الكثيرة: سيرة مؤسسه الملك عبدالعزيز رحمه الله، ومنجزاته في توحيد أجزاء الجزيرة العربية، سيرة الآثار العظيمة التي تحتويها مدننا وصحراؤنا وجبالنا، أن تكون هذه السير والآثار ماثلة أمامه في متاحف، يراها مرأى العين، يتأثر بها ويتفاعل معها؟!

نعم التاريخ مكمل للجغرافيا، فلا يمكن نشوء جيل سعودي يعي معنى أن يكون مواطنا من خلال تلقينه هذه التواريخ والآثار عبر المدرسة أو البيت أو المجتمع ونكتفي بذلك، حتى لو بادرنا نحن في الكلام عن أهمية التعرف على كل مدينة من مدن المملكة وما تحويه من آثار وإمكانات سياحية وثقافات متنوعة، فغرس بعض قيم المواطنة يبدأ من هنا، من دفع فئة الشباب بالخصوص إلى التعرف عن قرب إلى تلك الثقافات والتعايش معها.

صحيح أن ثمة روابط تاريخية اجتماعية بين مدن المملكة منها روابط نسب أو صداقات عائلية ومعارف عمل ومصالح مشتركة.

لكن هذا لا يكفي، في ظني، نحن بحاجة إلى تجربة جيل بأكمله في التعارف، ودعوني أوضح ما أقصده بمثال.

الدولة خلال عقود من الزمن، استطاعت عبر مؤسساتها ووزاراتها، أن تصنع روابط وعلاقات بين أبناء مناطق المملكة المختلفة، والقائمة بالأساس على التوظيف والعمل. وهذا أمر بديهي كما يبدو للوهلة الأولى عند الكثيرين، حتى الشركات الأهلية الكبرى تقوم بنفس الدور والمهمة وإن تفاوتت مساحات التأثير.

لكن الأمر ليس كذلك، فالتعارف بين مختلف فئات المجتمع السعودي من شماله لجنوبه ومن شرقه لغربه، خصوصا للجيل الحالي الذي أغلبه شباب مفعم بالحيوية والعطاء وإثبات الذات، يحتاج إلى مبادرات وسياسات مقصودة وموجهة، ولست أشير هنا إلى مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني الذي من أهدافه مثل هذا التوجه.

لكن ما أعنيه بالدرجة الأولى يشمل مبادرات حكومية وأهلية تندرج ضمن المؤسسات التعليمية مختلفة المراحل.

فمثلا لماذا لا يتم طرح مقررات دراسية في الجامعات تحديدا عن كل مدينة من مدن المملكة؟ بحيث تكون هذه المقررات ذات محتوى تطبيقي: زيارات أو إقامات مؤقتة بهدف التعرف على العادات والتقاليد الاجتماعية والثقافية ومن ثم الكتابة عنها أو على الأقل معرفتها عن قرب والتفاعل معها، وهذا له على المدى المتوسط والبعيد مردود إيجابي على تشكل هوية وطنية راسخة الجذور.

ربما يتساءل البعض أن مثل هذا التوجه، تنهض به وزارة الثقافة بالدرجة الأولى، فهي المعنية الآن بهذه المهمة، بالخصوص مع تحقيق رؤية المملكة بقيادة وزيرها الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود. نعم جزء منه هو كذلك.

لكن المجتمع السعودي مترامي الأطراف وله عمق تاريخي، وتضاريسه موزعة على مساحات شاسعة من الأرض، ومعرفة تفاصيله مشروع متعدد الاتجاهات والتخصصات يحتاج إلى تعاون الجميع.

mohmed_z@hotmail.com