عبدالله الحمدان

قبل قرابة عقد من الزمان، كنت أتجنب البقاء وحيدا لفترات طويلة، أو بمعنى أدق كنت أشعر بالملل سريعا، فأبحث عن هذا وأهاتف ذاك بحثا عن أناس يحيطون بي، حتى أذكر أني كنت أتنقل بين مجموعات من شلل الأصدقاء وأقضي معهم ساعات طويلة وأصبح تواجدي في المنزل قليلا أو شبه معدوم..

دارت الأيام.. وأعلنت حينها سلك مسار مختلف في حياتي، وبالفعل قمت بترتيب جميع ما يلزم من قبولات في المعاهد والجامعات وباقي الترتيبات واستعنت بالله ورحلت بعدها بعيدا عن عالمي..

في تلك الرحلة تنقلت بين عدة قارات من أوروبا إلى بريطانيا وأخيرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

سنوات مضت كنت فيها في أغلب الأوقات وحيدا في تنقلاتي ما بين قطارات ومطارات أو حتى في طرقات السيارات، وبين هذه وتلك بدأت بالتعرف إلى نفسي شيئا فشيئا، وبدأت أسمع لرغباتها وأهوائها ولميولها واتجاهاتها وحتى إلى سلبياتها وإيجابيتها.. فنفسي هي التي قادتني يوما إلى دراسة الإعلام، فأثناء دراستي الجامعية قالت لي نفسي «أنا لا أجدني هنا بين دراسة الأرقام.. فعقلي لا يتسع إلى كل هذا الزحام»

وسرعان ما طاوعتها وغيرت مساري التعليمي من التجارة إلى دراسات التواصل والإعلام.

حينها بدأت رحلة الغربة الحقيقية، الغربة التي لا يعرفها إلا من كانت له تجربة معها.

الكثير من الأشخاص ينظرون لمن يعمل أو يدرس في الخارج أنه محظوظ. إلا أن هناك العديد من المشكلات التي تواجه هؤلاء الذين قادتهم الظروف إلى السفر لفترات طويلة بعيدا عن أوطانهم.

من أهم المشكلات العامة التي تواجه المغتربين. تلك التي لها علاقة باختلاف اللغة والعادات والتقاليد، وحتى في الطريقة التي يتعامل بها الناس في حياتهم اليومية مثل السوبر ماركت أو كيفية التعامل مع مواقف السيارات ومحطات البنزين وغيرها الكثير. كل هذه التفاصيل اليومية مختلفة اختلافا كليا عن المنطقة العربية. ما يتسبب في الكثير من المواقف المحرجة أحيانا، التي يتعلم ويستفيد منها الشخص في قادم الأيام.

أما على صعيد الصداقات، فقرأت مقولة ذات يوم أن «أجمل ما في الغربة أنها تجعل من الغرباء أصدقاء.. وتجعل من الأصدقاء إخوة»

الكثير من العرب في الغالب يلجؤون لتكوين مجتمعات صغيرة لهم في الخارج. يحرصون فيها على مساعدة بعضهم البعض. ولكن المميز في العديد منهم هو قدرتهم في نفس الوقت على الاختلاط والتعامل مع أهل البلد بعد فترة من التعود على المكان الجديد.

ولا تتوقف الاختلافات في الغربة على العادات والتقاليد أو المعتقدات الدينية فحسب، بل أيضا على عادات وطرق تناول الطعام. وعلى الرغم من وجود بعض المطاعم الحلال لكن العرب عادة يعانون من ضرورة البحث وراء أصل الطعام الذي يقومون بتناوله، للتأكد من خلوه من لحم الخنزير أو الأطعمة التي تكون مطهوة باستخدام الكحول. فالعديد يواجهون مشكلة ضرورة التدقيق في كل ما يقدم لهم. خاصة اذا كانوا ممن يسكنون في الحرم الجامعي أو السكن مع بعض العوائل حيث لا يتوفر أمامهم العديد من الخيارات.

المشكلة الكبرى والتي انتهت معها رحلة بعض ممن زاملتهم في سنوات الغربة هي «الحنين للوطن» ويعد هذا الحنين أمرا متوقعا عندما ينتقل الناس إلى الخارج فالكثير لا يتأقلم مع الوضع الجديد، وبعد مدة يتحول الحنين إلى الشوق لأسرهم التي تركوها.

ولسان حال البعض يردد بيتا خالدا للأديب العربي خير الدين الزركلي «العين بعد فراقها الوطن.. لا ساكنا ألفت ولا سكنا»

اليوم، بعد تجربة شخصية دامت قرابة العشر سنوات وربما أكثر، أستطيع القول بأنني لست بحكمة باولو كويلو ولا بخبرة رجل سبعيني ولكني مجرد ثلاثيني بخبرة بسيطة عاش تجربة خلاصتها.. أن الغربة غالبا ما تنتهي بالعودة للديار لكتابة فصل جديد من رحلة تعددت فيها المواقف والمحطات ولم يبق منها اليوم سوى بعض من الذكريات التي تدون في صفحات الأيام، يعود معها صاحبها مسلحا بالعلم والخبرات العلمية والعملية والحياتية.

@Abdul85_