لا يمكن عزل الفكر والأدب عن الواقع، ولا حتى تحييده بحيث يبدو وكأن الواقع فكرة عائمة لا إلى الأرض تنتمي ولا إلى السماء، فترى بالتالي الفكر والأدب بلا هوية واضحة، وبلا جذور راسخة يمكن أن يستندا عليها في عمقهما.
لماذا أقول هذا الكلام، وما مناسبته؟
سأنطلق من ملاحظة بسيطة أجدها في مشهدنا الثقافي منتشرة انتشار النار في الهشيم تتعلق عند هؤلاء الذين لا يتوانون أن تجري على ألسنتهم ليل نهار أفكار أدركوها من خلال قراءاتهم لكبار المفكرين والأدباء والفلاسفة الغربيين، وهؤلاء، وما أكثرهم، يعيشون هذه الأفكار باعتبارها بديلا عن الواقع.
أعلم أن هذه أزمة لا تتعلق بمشهدنا المحلي فقط، بل تكاد تكون أزمة تتصل بالثقافة العربية منذ لحظة اتصالها بالثقافة الغربية وحداثتها. وأعلم أيضا مدى التعسف الذي جرى في استقبال الأفكار والمفاهيم والمصطلحات والمناهج الغربية لدى معظم مفكري ونقاد الثقافة والأدب العربي. لكنني لست في وارد الحديث حول هذا الموضوع الذي فيه الكثير من الأخذ والرد والجدل.
ففي فورة الاندفاعة إلى عالم الثقافة، والارتباط الشديد بالكتب والقراءة حد الهوس في بعض الأحيان، يحدث نوع من الاستيهام- ويعني في التحليل النفسي «خلق موضوع خيالي لإشباع رغبة مكبوتة مفتقدة في الواقع» تحتل مساحة كبيرة من إدراك الفرد وتفكيره، فمثلا أصادف البعض من الشباب المثقفين المبدعين الذين يمتلكون ذاكرة ثقافية وأدبية وفكرية عالمية متميزة، أدخل في حوار معهم مستمتعا ومحبا ومتعلما منهم.
لكني أخرج بانطباع أن ثمة حلقة مفقودة ألا وهي الواقع الذي نعيشه من حولنا بأجسادنا وبعلاقاتنا الاجتماعية والتاريخية والمكانية، أجد نفسي معهم نتكلم عن أفكار كبرى عابرة للحدود من كثرة ما تردد صداها في ثقافات العالم حتى كدنا ننسى منبتها الذي انشقت منه، والمكان الذي جاءت منه. في الحوار ذاته نتحدث عن مشاكل صغيرة لا تتجاوز الحياة اليومية أو ثقافتنا الاجتماعية المحلية، فنستدعي مقولات من قبيل: قال نيتشه، قال رولان بارت، قال ماكس فيبر..ألخ ثم نشرع ذهنيا في إسقاط تلك المقولات مثلا على قراءة ظاهرة اجتماعية معينة أو أدبية أو دينية. دون أن ندرك أن ما نقوم به هو حجب هذه الظواهر عن الوعي بتلك المقولات بدلا من فهمها.
أنا لا أدعو هنا بطرح تلك المقولات والأفكار جانبا ونبذها، بل أدعو إلى تبصر وتأنٍ والتفاتة إلى أهمية تاريخية الأفكار التي نشأت جلها في أوروبا وارتبطت بأسباب ودوافع وحراك اجتماعي وفلسفي وأدبي أوروبي بالدرجة الأولى. وهذه الالتفاتة والتبصر تحد من استهلاك الأفكار والمقولات والمفاهيم واستخدامها في كل صغيرة وكبيرة، أو توظيفها بمناسبة أو غير مناسبة.
إذن لماذا الاستيهام في مثل هذه الحالات عند الشباب؟ بسبب حالة الانفصال عن الواقع التي مارستها ثقافة الصحوة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهيمنة أذرعها في كل ما له ارتباط بالفكر والأدب والتربية والتعليم، فجيل الألفية الثالثة وجد نفسه فجأة أمام انفتاح لا سابق له، بالخصوص حين استنفدت تلك الثقافة جميع أساليبها عبر أجيال مختلفة، ولم يبق لهذا الجيل ما يرثه من الأجيال السابقة التي لم تستجب لتلك الثقافة سوى ثقافة المخيلة، وهو حين يدعوه هذا الانفتاح إلى تلقي العالم والاندماج فيه، وكأنه يريد منه أن يمتلك شيئا قد فقده في واقعه اليومي، فإن خبرة المخيلة تغلب خبرة الحياة اليومية، يحدث ذلك في جميع المجالات: الفكرية والأدبية والموسيقية. بالعكس تماما من الجيل الذي عاش شبابه في بداية السبعينيات - كما هو جيلنا- الذي شهد بداية صعود الإسلام السياسي في المنطقة، وبداية صعود الصحوة، وكأننا ونحن هذا الجيل متناظران: نحن استنفدنا حياتنا وخرجنا بذاكرة ثقافية مشوهة، بينما هذا الجيل انفلت بذاكرته، ليقع في ذاكرة الآخر.
mohmed_z@hotmail.com
لماذا أقول هذا الكلام، وما مناسبته؟
سأنطلق من ملاحظة بسيطة أجدها في مشهدنا الثقافي منتشرة انتشار النار في الهشيم تتعلق عند هؤلاء الذين لا يتوانون أن تجري على ألسنتهم ليل نهار أفكار أدركوها من خلال قراءاتهم لكبار المفكرين والأدباء والفلاسفة الغربيين، وهؤلاء، وما أكثرهم، يعيشون هذه الأفكار باعتبارها بديلا عن الواقع.
أعلم أن هذه أزمة لا تتعلق بمشهدنا المحلي فقط، بل تكاد تكون أزمة تتصل بالثقافة العربية منذ لحظة اتصالها بالثقافة الغربية وحداثتها. وأعلم أيضا مدى التعسف الذي جرى في استقبال الأفكار والمفاهيم والمصطلحات والمناهج الغربية لدى معظم مفكري ونقاد الثقافة والأدب العربي. لكنني لست في وارد الحديث حول هذا الموضوع الذي فيه الكثير من الأخذ والرد والجدل.
ففي فورة الاندفاعة إلى عالم الثقافة، والارتباط الشديد بالكتب والقراءة حد الهوس في بعض الأحيان، يحدث نوع من الاستيهام- ويعني في التحليل النفسي «خلق موضوع خيالي لإشباع رغبة مكبوتة مفتقدة في الواقع» تحتل مساحة كبيرة من إدراك الفرد وتفكيره، فمثلا أصادف البعض من الشباب المثقفين المبدعين الذين يمتلكون ذاكرة ثقافية وأدبية وفكرية عالمية متميزة، أدخل في حوار معهم مستمتعا ومحبا ومتعلما منهم.
لكني أخرج بانطباع أن ثمة حلقة مفقودة ألا وهي الواقع الذي نعيشه من حولنا بأجسادنا وبعلاقاتنا الاجتماعية والتاريخية والمكانية، أجد نفسي معهم نتكلم عن أفكار كبرى عابرة للحدود من كثرة ما تردد صداها في ثقافات العالم حتى كدنا ننسى منبتها الذي انشقت منه، والمكان الذي جاءت منه. في الحوار ذاته نتحدث عن مشاكل صغيرة لا تتجاوز الحياة اليومية أو ثقافتنا الاجتماعية المحلية، فنستدعي مقولات من قبيل: قال نيتشه، قال رولان بارت، قال ماكس فيبر..ألخ ثم نشرع ذهنيا في إسقاط تلك المقولات مثلا على قراءة ظاهرة اجتماعية معينة أو أدبية أو دينية. دون أن ندرك أن ما نقوم به هو حجب هذه الظواهر عن الوعي بتلك المقولات بدلا من فهمها.
أنا لا أدعو هنا بطرح تلك المقولات والأفكار جانبا ونبذها، بل أدعو إلى تبصر وتأنٍ والتفاتة إلى أهمية تاريخية الأفكار التي نشأت جلها في أوروبا وارتبطت بأسباب ودوافع وحراك اجتماعي وفلسفي وأدبي أوروبي بالدرجة الأولى. وهذه الالتفاتة والتبصر تحد من استهلاك الأفكار والمقولات والمفاهيم واستخدامها في كل صغيرة وكبيرة، أو توظيفها بمناسبة أو غير مناسبة.
إذن لماذا الاستيهام في مثل هذه الحالات عند الشباب؟ بسبب حالة الانفصال عن الواقع التي مارستها ثقافة الصحوة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهيمنة أذرعها في كل ما له ارتباط بالفكر والأدب والتربية والتعليم، فجيل الألفية الثالثة وجد نفسه فجأة أمام انفتاح لا سابق له، بالخصوص حين استنفدت تلك الثقافة جميع أساليبها عبر أجيال مختلفة، ولم يبق لهذا الجيل ما يرثه من الأجيال السابقة التي لم تستجب لتلك الثقافة سوى ثقافة المخيلة، وهو حين يدعوه هذا الانفتاح إلى تلقي العالم والاندماج فيه، وكأنه يريد منه أن يمتلك شيئا قد فقده في واقعه اليومي، فإن خبرة المخيلة تغلب خبرة الحياة اليومية، يحدث ذلك في جميع المجالات: الفكرية والأدبية والموسيقية. بالعكس تماما من الجيل الذي عاش شبابه في بداية السبعينيات - كما هو جيلنا- الذي شهد بداية صعود الإسلام السياسي في المنطقة، وبداية صعود الصحوة، وكأننا ونحن هذا الجيل متناظران: نحن استنفدنا حياتنا وخرجنا بذاكرة ثقافية مشوهة، بينما هذا الجيل انفلت بذاكرته، ليقع في ذاكرة الآخر.
mohmed_z@hotmail.com