د. محمد حامد الغامدي

* فخور باستنتاجي، الذي رأيته مفصليا وعظيما، لتعزيز قضية الماء التي أحمل. وهو أن شجر العرعر وغاباته تحدد الشريط المطير شرقا، وتحدد أيضا مساحته في جميع مناطق الجنوب الغربي من المملكة، حفظها الله. فهو شجر لا يتواجد خارج هذا الشريط. بذلك أصبحت سلامة شجر العرعر مؤشرا على سلامة بيئته لصالح المزيد من الأمطار، لتغذية المياه الجوفية. موته الجماعي حاليا مؤشر مهم على تدهور بيئته المطيرة والمهمة للأجيال القادمة.

* فتح هذا الاستنتاج أمامي خارطة شريطنا المطير بكل حذافيرها وأبعادها العلمية، وعمّق أيضا أهميته. بهذا الاستنتاج، الذي رأيته من أعظم الإنجازات في حياتي، بدأت مرحلة جديدة من الكفاح، والملاحظات العلمية وتساؤلاتها، وإجاباتها وحيرتها. ونتيجة لذلك دخلت باهتمامي بيئة مناطق الجنوب الغربي بكل قوة، لصالح قضيتي الماء. هذا ما جعل غطاءها النباتي من شجر العرعر في مستوى أهمية الماء وقضيته التي أحمل.

* توصلت لقناعة بأن المطر وشجر العرعر محوران لا يمكن تحييد أحدهما، ولكنهما مترابطان إلى أبعد مدى. من هنا تأتي أهمية الحفاظ على سلامة شجر العرعر، كغطاء نباتي رئيس، وكان يشكل (70) بالمائة. بجانب تلك الأهمية تأتي ضرورة تنميته وزيادة مساحاته في هذا الشريط المطير. كل هذا لصالح تغذية المياه الجوفية، وزيادة المخزون منها لصالح الأجيال القادمة.

* سلامة بيئة هذا الشريط المطير، والمحدود، مسؤولية وطنية عظمى، ومحور مهم، وأساسي، وإستراتيجي، لزيادة كثافة الأمطار وغزارتها.

* إن ترك هذا الشريط المطير دون عناية واهتمام يعرضه للتصحر، (خاصة فقد تربته النادرة، التي تشكل الوعاء الحامل لكل شيء في هذه البيئة). تربة هذا الشريط، (أكرر: النادرة)، تتعرض حاليا لجرف جائر وضياع أبدي، وهي المهمة لصيد وتجميع وتخزين مياه الأمطار. إنها الوعاء، والأداة، والوسيلة الطبيعية لتغذية المياه الجوفية وتنميتها.

* وقد وضعت أكثر من كتاب يحمل أفكارا لإحياء علوم هذه المناطق عبر تاريخها، والمتعلقة بالبيئة. ومنها علم إدارة مياه الأمطار، وعلم إدارة السيول، وعلم صيد وتجميع وتخزين ماء المطر وهندستها. إن زيادة غزارة المطر السنوية، واستدامته، وزيادة كفاءة تغذية المياه الجوفية يعتمد على سلامة شجر العرعر وتربته.

* وقد برع أهل هذه المناطق، عبر تاريخهم الممتد لقرون، في تطبيق علمهم المائي هذا. لكن في زمننا، وصلنا مرحلة مرعبة من فقد هذا التراث المهاري المائي العلمي. وهذا يدل على خيبتنا التاريخية، أمام هذا العلم والتراث المائي المهم والفاعل.

* هل يعيد التاريخ نفسه؟ في أحد خطاباتي الموجه لمعالي مدير جامعة الملك فيصل، عندما كنت مديرا لمحطة التدريب والأبحاث الزراعية والبيطرية، في تسعينيات القرن الماضي، قلت: (يؤسفني أن اسمي ليس جون أو جورج). واليوم وبعد كل هذه العقود، أكرر نفس القول. فالعرب يؤكدون أن زامر الحي لا يطرب. فأصبحت أكتب لنفسي دون إحباط أو ملل. فالكتابة وضع، والقراءة وضع آخر، وطرح الأفكار وضع، وفهمها وتطبيقها وضع آخر. هذا يعني أن شخصي غير مسؤول عن مسؤولية الآخر. فيزيد هذا من صلابة موقفي أمام نفسي، ويحقق لشخصي مواصلة العطاء. الضمير هو الذي يحكم ويوجه.

* ما يجري من تجاهل للبيئة في مناطقنا المطيرة، يثير الشك والريبة، ويعطي الانطباع السلبي. فهي بيئة مريضة وليس لها طبيب. هذه المنطقة الجغرافية المحدودة، هي الخزان الإستراتيجي للمياه الجوفية للمملكة، حماها الله.

* من غير المعقول تجاهل تدهور وموت غطائها النباتي، خاصة شجر العرعر. وأتساءل: هل يدرك القوم أهمية بيئة هذه المناطق؟ هل وصلنا مع هذا التجاهل مرحلة المرض؟ إن التجاهل مرض، والتقاعس مرض، وعدم الاكتراث مرض، وعدم القدرة على قراءة المؤشرات مرض، وعدم فهم المؤشرات وتوقع نتائجها المستقبلية كارثة ومرض وجهل. ويستمر الحديث بعنوان آخر.