محمد الحرز

القصيدة لا تنتهي ولا تبدأ، هي الحركة الدائمة، مركزها الروح ومحيطها العالم ووجهتها الحياة. لا تمضي وحيدة، الرغبة في الكلام صديقها الوفي، ولعبة السير على حبال الكلمات أختها من الرضاعة، ترغب ولا تفصح، تسير ولا تنتمي، أقل التفاتة لها هي أكثر صخبا عند الآخرين، وأكثر انتباهة عندها هي عندهم الغفلة حين تمر الحياة بصخبها وضجيجها. انشغالها بنفسها عمن حولها لا يعني أنها لا تقول الحقيقة، وارتباطها بالأرض لا يمنعها من مد ذراعيها لاحتضان السماء، وما بينهما تصغي لكل الأحاديث التي تدور بين النجوم ولا تتعب، وإذا ما مسها شيء من صوت الرعد، وألقى البرق لمعته في يديها، استدارت إلى نفسها وغطتها بريش النعام.

القصيدة لا تكبر ولا تشيخ، ولم تجد نفسها يوما ما صغيرة على الإطلاق، هي ابنة اللحظة. لكنها ابنة الماضي أيضا. يقول عنها التاريخ هي أبي بينما يقول عنها الدين هي من أحفادي، التنازع لا يقع إلا على نسخها العديدة المبثوثة في زوايا العالم، بينما هي الصامتة التي لا تقول شيئا ولا تشير إلى شيء، تراقب فقط كيف تتحول هذه النسخ إلى حراب راسخة في أرض كنا نسميها مخيلة الإنسان؟

لكن من حسن حظها أنها لا تملك شهادة ميلاد، ولن يكون لها شهادة وفاة كذلك، قد تدرك ذلك في لا وعيها ثم تتصرف على أساسه، وقد لا تدرك ذلك مطلقا. لكنها في كلتا الحالتين لا يغيب عن بالها أن ثمة شاعرا بانتظارها دائما، يغيب فترة لكنه في النهاية يظهر.

يأتي شاعر وينصب أعلامه فوق بنايتها، ويشعل النيران حوله حتى لا يضيع الزائر حين يقصده، يشعل حطبا كثيرا، ولا يهتم إذا ما احترقت كلمة أو كلمتين من قصيدته، ما يهمه هو أن يقال هذا هو وهذه قصيدته خلفه تتبعه مثل جرو صغير.

ثم يأتي شاعر آخر ويتبع التابع، ويأخذ بآثاره هو وليس بآثار القصيدة. الكلمات المحترقة لا تنتسب إلى أحد، غزلان شاردة في براري المخيلة، وذئاب التابع وعائلته عاجزة عن اللحاق بها. وكأن القصيدة فيما هي تمضي، لا تلتفت، إلى أولادها الذين يتساقطون هنا أو هناك على الرمل أو على الأرصفة أو في وديان سحيقة أو على سطوح المباني العالية أو في السجون، تتركهم يواجهون مصيرهم أمام العالم أمام الإنسان أمام الزمن، وفيما هم يواجهون مصيرهم يكون كل واحد منهم قد كتب مأساته في الحياة، ثم يكون عليه أن يختفى خلف صاحبه الذي التقطه ورباه وأنطقه من كلمات روحه.

القصيدة واحدة وكذلك الإنسان، وهذا الأخير يكرر القول حتى يصنع من نفسه أسطورة تلتف مثل أفعى لا على جسده، إنما على مخيلته، فيتوهم أنها القصيدة وقد استطاع أن يراها بعينيه ولسانه وسمعيه ويلمسها بيديه ويركلها بقدميه، والقصيدة مع كل ذلك تضحك، لأن الإنسان عندها ليس الإنسان، ولا القصيدة هي القصيدة، ثمة جريان شديد لنهر الزمن، معه لا يمكن أن تفكر القصيدة بنفسها، ولا الإنسان يفكر بأسطورته، فقط هناك صوت الجريان وحده، ولا شيء آخر سواه، ومقدار قرب الأشياء منه، أو بعدها عنه، تحظى بالمنزلة التي تفضي بها إلى امتلاك حالة التذكر الأولى، والإنسان في القرن الواحد والعشرين لم يصل إلى تلك المنزلة، قد تكون بقية الكائنات سبقته. لكنه لا يعلم، وحدها القصيدة تدرك ما ينبغي على الإنسان أن يعرف ما تتضمنه حالته الأولى. لكن الطريق شائكة، لذلك على القصيدة أن تضحك دائما.

mohmed_z@hotmail.com