عبدالعزيز المحبوب

كنت قبل أيام في أحد المقاهي لقضاء بعض الوقت وللغذاء الذهني بقراءة أحد الكتب، كان بجواري نقاش ساخن على إحدى الطاولات بين شابين، لم أكن لأسترق السمع ولكن الصوت كان يعلو شيئاً فشيئاً مع حوارهما الذي يبدو أنه حول موظف زميل لهما في الشركة. حيث كان أحد الشابين يروي وينقل للآخر ما دار بينه وبين ذلك الموظف من حديث وما قاله على هذا الآخر الذي يجلس معه في المقهى، وهو الأمر الذي أثار غضب الأخير ودفعه لسيل من الانتقاد الواسع والجائر رداً على (حديثٍ منقول) حتى أخذ نفساً عميقاً وقال «عموماً... ما حلمت فيه علشان أفسره».

هذه الحادثة أوقفتني عن القراءة حينها، فأخرجت قلمي مباشرةً لأكتب ما يدور في عقلي من تأملات لهذه الحالة وهذا الصدع الداخلي الذي يعبر عن «الانفصال المؤسسي» بين بعض مكونات هذه الشركة. فقد كانت أركانها ثلاثة، الأول متحدث منتقد، انسل من التركيز على دوره ومهامه التي قد يكون أضعف منها ومخفقاً فيها ليعكر «الصفو المؤسسي» بحديثه الذي غالباً ما يخالطه توابل الإشاعات وزيف السيناريوهات. وأما الثاني فهو ناقل الحديث، أو بالأحرى ذلك الشريان الذي يمرر السم في أرجاء جسد المنظمة لتبلى جزءاً فجزءاً حتى تهلك، وقد تتوارى مصلحته الشخصية خلف ذلك السلوك، فيضيف على الحديث حديثا حتى تكتمل الحبكة ويتحقق الهدف. وأما الثالث فهو مستمع، اتخذ موقفاً شرساً في العلاقات، وربما تبعه قرار قاصم حاسم لم يكن أساسه الذي بُنيَ عليه سوى قاعدة هشة يطلق عليها «يقولون»، دون دراسة وتدبر لقوله تعالى «فتبينوا أن تصيبوا قوماً» أو حتى قوله «ولا تنسوا الفضل بينكم».

هذه الثقافة إذا حلت في أروقة المنظمة واستشرت بين أسوارها فهي تدق ناقوس خطر كبير قادم، إذ تتسع معها بين الموظفين الهوة، وتزداد الفجوة، وتحل الفرقة، وتتجلى آفة صناعة الخصوم والأعداء، ومجابهة أصحاب الهمة الأكفاء، وتنحرف رعاية المصلحة المؤسسية، والعلاقات المهنية الأخوية، إلى جرف المواقف الشخصية، والمواجهات الحادة الندية، ويتبدل معها ميدان الإنجاز والعطاء، ليصبح ساحة صراعات ونزاعات، وأرض خلاف واختلافات، وحلبة تحدٍ ومجابهات. وقد تزداد ضراوة هذه الثقافة في وجود مراكز قوى داخلية خفية، لهم من الموظفين تبعية، فحديثهم واسع الانتشار، وإشاعاتهم تخلف الأضرار، أما الخاسر الأكبر فهي المنظمة ومكانتها الحالية وطموحاتها المستقبلية.

وهنا يأتي دور القادة في تكوين وتحسين ثقافة المجتمع الوظيفي وصياغتها وتشكيلها، وإنعاش بيئة العمل، وتوحيد الصف واتجاهات الموظفين نحو نيل الأهداف وتمكينهم بأدوات خوض ذلك الغمار، وكذلك وضع الأنظمة التي تعزز دور الاتصال الداخلي في إذابة الأسلاك الشائكة بين حدود العلاقات المهنية، والحد من تلك الممارسات والأحاديث الضارة الجانبية، التي تأتي على هامش المسيرة المؤسسية. وذلك معطوف على دمج الموظفين في الخطط والمشاريع بأنفاس الروح والأسرة الواحدة بعيداً على إثارة التنافسية الفردية أو التفضيل القائم على معايير غير منهجية.

أختم بالقول أنني عندما هممت بمغادرة المقهى، كتبت رسالةً مهمة في ورقة صغيرة، وسلمتها أحد الموظفين ليعطيها الشابين على الطاولة بعد خروجي، وقد كتبت فيها... قال تعالى «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم».

@azizmahb