محمد الحرز

يحظى بعض الناس بالحياة الصاخبة المملوءة بالأحداث المؤثرة على مجرى حياته، المفتوحة على الأمكنة المتعددة التي كل مكان منها يختلف عن الآخر اختلافا كليا، من حيث البشر والبيئة والثقافة واللغة، يحظى بأصدقاء ومعارف كثيرين، يزور مدنا كثيرة، يرى معالم وآثارا مختلفة وكذلك أناسا كثيرين، يرى ثقافتهم في حياتهم اليومية، عاداتهم وتقاليدهم، وطباعهم ويتعرف على آرائهم حسب ما يتيحه له ميوله وطبيعة شخصيته وثقافته أو عمله.

هؤلاء الفئة من الناس لو تساءلنا: من هم؟ ومن أي طبقة من المجتمع يكونون؟ وما طبيعة تلك الحياة التي عاشوها، وهل يقتصر تأثير حياتها على أصحابها أم يمتد التأثير إلى خارج محيطهم الذاتي؟.

هناك أسئلة عديدة تتوالد من تلقاء نفسها، إذا ما تأملنا أحوال هذه الفئة من الناس في كل المجتمعات، وعلى امتداد العصور التاريخية. لكن ما نحاول التركيز عليه في هذه المقالة هو تفسير مقولة أن الحياة في أدق تفاصيلها اليومية التي يعيشها الإنسان هي التي تصنع شخصيته في المستقبل، أي كانت هذه الشخصية، وأيا كانت طبيعتها أو مجال عملها، وسوى ذلك من مقولات أخرى أيديولوجية أو أفكار كبرى تنمط الإنسان أو تختزله فيها، ليست سوى أوهام لا يمل الإنسان نفسه من أن يكررها باستمرار دون أن يستفيد من تجاربه التاريخية الكثيرة.

العالم مملوء بمثل هذه الفئة من الناس. لكنها لا تشكل كتلة واحدة متجانسة مثلما نقول هذه فئة التجار أو فئة العمال أو فئة الكتاب وغيرهم من التصانيف العديدة التي أنتجها خطاب علم الاجتماع من فروعه في حقل العلوم الإنسانية، بل كل تجربة من تجارب هؤلاء في الحياة قائمة بذاتها لا تشابه أختها، فيمكن أن يكون هذا الشخص مساره في الحياة أفضى به أن يكون تاجرا، وذاك أفضى مساره أن يكون كاتبا، والآخر منهم أيضا أفضى مساره أن يكون عالما... وهكذا يمكن أن نعدد الكثير من تجارب هؤلاء في المجتمع. لكنهم بالتأكيد يتقاطعون في حياتهم مع هذه الظروف التي حظي بها كل واحد منهم من حياة صاخبة كما قلنا في بداية المقال. والأمثلة الدالة على هؤلاء لا تعد ولا تحصى قديما وحديثا، في مجال الأدب أمين معلوف وإدوارد سعيد، في مجال العلم زهى حديد، في مجال الفن عمر الشريف، في الشعر سعدي يوسف جويس منصور، في الرواية ميلان كونديرا، في النقد تيزفيتان تودروف، والقائمة تطول هذا إذا ما اقتصرنا على العصر الحديث.

خلاصة ما يستفاد من تجارب حياة هؤلاء، يمكن تصويرها بالنهر الذي يجري، وفيما هو يجري يفتح له مسارات وفروعا متعددة في كل أرض يعبرها، وليس النهر سوى تجارب هؤلاء وليست الأرض سوى حياة كل واحد منهم. والمستفيد هم البشر أنفسهم.

لذلك مهما حاولت الأفكار الصلبة من قبيل العقائد أو المسلمات أو الأيديولوجيات أن تعمل مصدات لمجرى هذا النهر. لكن النهر بالنهاية يجري ولا يتوقف.

بالمقابل الذين لم يحظوا بمثل هذه الحياة، وهم غالبية الناس أو المجتمع، لا يعني أنهم لم يكونوا مؤثرين أو غير متميزين في حياتهم أو غير مبدعين أو غير عباقرة، لا ليس هو المقصود، وإلا هناك أسماء كثيرة وتجارب عديدة مؤثرة لم تحظ حياتهم بالصخب أو الأحداث المهمة، أو حتى أنهم لم يخرجوا من مدينتهم التي ولدوا فيها.

لكن ما يمتاز أولئك عن هؤلاء هو أنهم خبروا التنوع في الحياة على جميع الصعد والمستويات وتعرضوا لاختبارات عديدة في طريقة صناعة الحياة وفق الظروف التي يمرون بها، حيث الحياة دفعتهم دفعا إلى المغامرة دون أن يأنسوا بفكرة أو قناعة واحدة.

mohmed_z@hotmail.com