هناء مكي

تعتبر الأوبئة على مدار التاريخ متغيرا كبيرا للحياة البشرية وأنظمتها باختلاف قطاعاتها، وهي وسيلة ضغط غير طبيعية على اتخاذ القرارات العاجلة والقوانين الوضعية التي تلائم تلك الفترة، فهي تسجل في نطاق الحوادث الطبيعية العالية الحدة، وإن كانت تشكل انتكاسة وأزمة في بعض القطاعات إلا أنها وبحسب التاريخ تعتبر أكبر مناصر للعمال وحقوق العاملين وتغيير قوانين العمل في السوق.

وبالحديث عن الأوبئة يعتبر أكبر فاجعة مرت على تاريخ البشرية هو وباء الطاعون سمي بالموت الأسود، وكان أيضا مصدره الصين، ووصل إلى أوروبا في القرن الرابع عشر واستطاع هذا الوباء الفتاك القضاء على ثلث القارة الأوروبية خلال سبع سنين فقط (انتشر ما بين 1347 و1352م)، بل أكثر من ذلك يعتبر هذا الوباء القاتل سببا في أزمات عديدة مرت بها البشرية آنذاك، لامست القيم الاجتماعية والدينية وأثرت كثيرا على الاقتصاد والنظام الإقطاعي السائد حينها.

الغريب في هذا الوباء وكأنه أحدث هزة في علبة ليعيد بعثرة ما في داخلها، كان تأثيره ليس فقط كبيرا بل عميقا جدا، كلف أوروبا لوحدها من 150 سنة إلى 250 سنة لكي يستعيدوا بعضا من وضعهم السابق. فيما تسبب بنقص العدد التقريبي لسكان العالم من 450 مليونا إلى أن أصبح يتراوح ما بين 350 و375 في العام الرابع عشر.

وكما هو الحال في كل أزمة فإن الاعتقاد بأن ما يحدث غضب رباني هو أمر متوقع، ولكن كيف هو الحال في القرن الرابع عشر فإن هذا المعتقد يتحول الى حقيقة مسلمة تساهم مساهمة كبيرة في خلق حروب أهلية ناتجة من هذا الاعتقاد وبدل علاج الواقعة يتم التوسع في الأسباب، وهذا ما حدث فقد تم إقصاء طوائف من المجتمع المدني وأغرقت هذا الأمور الناس في فوضى ساهمت كثيرا في بعثرة الأوضاع واتساع الفوضى، وبين الالتزام العقدي والاجتماعي وبين الأوامر بإغلاق الطرق ومنع التجارة الخارجية خلق هذا الوضع سوقا سوداء، وترتب عليه ثراء بعض العاملين في هذه السوق وتضخم في الأسعار، الأمر الأخر والأكثر أهمية هو الاقتصاد والإعالة بعد موت الناس والخوف من تفشي الوباء صار أصحاب المهن عملة مطلوبة وباهظة بالذات الفلاحين، بل إن هذا الأمر ساهم في محاربة النظام الإقطاعي بعد اشتراط الفلاحين امتلاك أراض نظير خدماتهم بعد أن كانوا مجرد «سخرة». ليتحول سكان الأرياف إلى مناطق امتلاك أراضيهم وتنشط هناك الحركة والتجارة والخدمات.

نقص الناس وخوفهم جعل العمالة غير متوفرة، وكان الحصول على عامل يجبر أصحاب العمل على عرض أجرة كبيرة بمثابة تأمين على مخاطرتها بالإضافة لتشجيعها.

وباء الموت الأسود الذي كان من أكبر الأوبئة ظلامة في التاريخ هو ذاته كان سببا في وضع حلول عمالية وتوفير فرص للعمل وتعديل أوضاع العاملين بطريقة لا يمكن لأي فرد في ذلك الوقت تصورها أو حتى التنبأ بها.

وباء كورونا اليوم، هو في طريقه لابتكار حلول عمالية جديدة، وتغيير مواصفات العمل والأعمال في سوق العمل، ففي الوقت الذي يخسر العديد من الناس وظائفهم بسبب الجائحة فإن هناك من ابتكر له مشاريع وكانت له فرصة كبيرة، بات الطلب على مواصفات وتخصصات معينة للمساعدة في مسايرة الوضع القائم. وأصبح العمل من المنزل مفهوما آخر يتم من خلاله تغيير الأدوات. والكثير من المتاجر العالمية صارت تعتمد على الأسواق الإلكترونية في عملية البيع.

للآن لا يمكن الكشف عن مدى فائدة هذه الجائحة لصالح توفير حلول عمالية في السوق، ولكن الأكيد هو تغيير أنماط النشاط الوظيفي في العمل بطريقة غير مسبوقة.

@hana_maki00