عاصم أحمد المعلمي

عندما يلعب مجموعة من الأطفال لعبة جماعية، غالبا ما يبرز في اللعب ذلك الطفل الذي يملي على باقي الأطفال قوانين جديدة يبتكرها عندما (ينزنق) فيسعى لقلب الوضع في اللعبة لمصلحته، ودائما ما يعلو الصياح والجدل حول هذه التعديلات، بين محتج غاضب ومؤيد متحمس للقوانين الجديدة، وقد يصل الأمر بقوانين اللعبة الأصلية لأن تتبدل وتتحور فتنتج نسخة معدلة ومختلفة من اللعبة ويبرع فيها اللاعبون الذين اقحموا القوانين الجديدة وهم في الغالب من اللاعبين الجدد، في حين يتشبث اللاعبون الأقدم في الساحة بقوانين اللعبة الأصلية وهؤلاء قد يصيبهم الامتعاض، وقد ينسحبون تاركين الملعب للدخلاء المستمعين بشغف نحو الجديد والمبتكر من هذه اللعبة ويرون أن فرصة فوزهم أصبحت أكبر في هذا الوضع الجديد، وهكذا يصبح صوت اللاعبين الجدد هو الأعلى والأكثر تأثيرا في ساحة اللعب، هذا السيناريو يتكرر كثيرا خاصة عند احتدام المنافسة على ساحات اللعب، وأعتقد أن أغلبنا قد وجد نفسه في مثل هذا الوضع أيام الطفولة. في عالم الأعمال اليوم لا يختلف الوضع كثيرا، فالشركات الكبيرة والعريقة باتت تجد نفسها مرغمة على التعامل مع الوافدين الجدد للأسواق من الشركات الناشئة ورواد الأعمال المندفعين، والمسلحين بأسلحة الابتكار والمرونة العالية والقدرة على المناورة حول شركات ثقيلة بإرثها وتاريخها في السوق. فتعاني هذه الأخيرة من هذا الوضع حد الانسحاب أو الانهيار بصورة دراماتيكية لا يكاد يستوعبها الملاك والمساهمون في هذه الشركات المخضرمة، والأمثلة على هذا الوضع كثيرة ومشهودة، فما هو التفسير لهذا السيناريو الذي أصبح واقعا معاشا ومتكررا ومألوفا، بل أكثر من ذلك، فقد أصبح نموذجا يحلل ويدرس في علم الإدارة وله مصطلحه الخاص به ألا وهو (نموذج العمل المخرب) Disruptive Business Model؟ فما يكون وما أهميته؟.

في عام 1997م، صدر للخبير الإداري الأمريكي والبروفيسور في جامعة هارفرد - كلايتون كريستنسن - كتاب بعنوان The Innovator's Dilemma أو معضلة المبتكر، وناقش كريستنسن فيه كيف أن أغلب الشركات القائمة والمستقرة تفوت على نفسها فرصة اللحاق بموجات الابتكار الجديدة، في حين تبذل جهودا مضنية في التحليل والبحث لمحاولة الفهم وتجنب أسباب الفشل التي أودت بأفضل الشركات من مثيلاتها بشكل سريع ومفزع، وأوضح كريستنسن في معرض كتابه أن الأسباب التي قادت هذه الشركات للنجاح في بداياتها هي التي ستؤدي إلى زوالها في نهاية الأمر!، وعلى غلاف كتابه، ذيل كريستنسن عنوان الكتاب بهذه العبارة: حينما تتسبب التقنيات الجديدة في فشل الشركات الكبرى فكان هذا الرأي أشبه بناقوس خطر أسمع رؤساء الشركات وجلبهم حول هذه الرؤية الجديدة للتمعن فيها وإدراكها. وقد سبق ذلك بعامين، مقال علمي لنفس الكاتب أطلق فيه مصطلح (التقنيات المخربة) ثم أعاد صياغة المصطلح في كتابه هذا ليكون (الابتكار المخرب) أو المزعزع للأعمال، فكان ذلك نواة لنموذج العمل المخرب. ولإيضاح ما أعني بنموذج العمل المخرب، سأذكر مثالا له والأمثلة كثيرة في هذا السياق، إلا أن من أوضحها وأشهرها نموذج العمل الذي جاءت به شركة (أوبر) والذي نسف كل القواعد المتعارف عليها في صناعة سيارات الأجرة أو الـ Taxi متسببا في ثورة نقابات سائقين الأجرة في دول العالم، والتي كانت من أشدها ضراوة تلك التي تبنتها هيئة النقل في لندن عام 2017 م برفعها عددا من القضايا لمنع تجديد رخصة أوبر في لندن، إلا أن أوبر كسبت الجولة بعد ذلك بعامين لتستمر في التواجد أمام أحد أيقونات هذه الصناعة وهو تاكسي لندن، لتكون هذه اللاعبة الجديدة واقعا أرغم شركات الأجرة على مجاراته واللعب بقوانينه. وقد نجح نموذج أوبر على مستوى العالم وتغلغل في ثقافات المجتمعات في وقت قياسي جدا، فما الذي قدمه هذا النموذج وعلى ماذا استند ليكون بروزه وحضوره بهذه القوة؟ وبكلمات عملية أكثر ما هي القيمة التي قدمها هذا النموذج الجديد (Value Proposition) والتي مكنته من كسب رهان المنافسة بهذه السرعة؟.

ببساطة، ركز نموذج عمل سيارات الأجرة الجديد على تحييد كل الأمور المزعجة التي تصاحب طلب واستخدام سيارة الأجرة، تلك الأمور المتعلقة بصعوبة الحصول على الخدمة والانتظار الطويل في الشارع أو الاتصال الهاتفي ومحاولة شرح العنوان والمساومة في أجرة التاكسي وطريقة الدفع النقدي ونحوها، فكان أن حصر هذا النموذج القيمة التي يقدمها للعميل في ثلاث نقاط وهي: الحصول على السيارة بضغطة زر!، وأن يعرف السائق وجهة الراكب بالضبط حتى قبل وصوله إليه، ثم إن الدفع محدد مسبقا وغير نقدي. هذا فيما يخص الراكب أما سائق الأجرة فقد وفر له هذا النموذج قيمة عالية أيضا تمثلت في: توفير الوقت وتكاليف الوقود المهدرة في التجول للبحث عن الركاب، وأيضا منحت السائق فرصة لبناء علاقة ولاء مع الراكب من خلال تعارف الراكب والسائق من المرة الأولى وإمكانية إعادة الاتصال بالسائق في المستقبل، وكذلك تسهيل دخول الراغبين في العمل في هذا المجال بعيدا عن النقابات والتراخيص المعقدة، كل هذه المزايا تندرج تحت القيمة المقدمة لنموذج العمل الجديد هذا، ولم يكن ليتاح لأوبر أن تقدمها لولا استيعاب مؤسسها لواقع التكنولوجيا وأهمية الابتكار في استخدامها. هذا مثال واحد لنموذج عمل مخرب من بين أمثلة عديدة لنماذج عمل بنيت على الابتكار قبل الاستثمار، واعتمدت على إعادة صياغة قواعد اللعبة، بل أكثر من ذلك فقد أنشأت ملعبا جديدا ولاعبين جددا يتبعون قواعد اللاعب الأول المؤسس لهذا النموذج. ومن الأمثلة الأخرى للذكر وليس للحصر تطبيق الخدمات الفندقية Airbnb الشهير والذي غير قواعد صناعة الفندقة تماما، وأيضا شركة Amazon التي لا يخفى على أحد حجمها أو اتساع انتشار خدماتها وعملائها، والتي ما زالت تتغذى بنهم على الابتكارات وتزداد نموا واتساعا. نموذج العمل هو أداة من أدوات تحليل الأعمال والتخطيط لها، وفي العقد الأخير بات التركيز على هذه الأداة أكبر من التركيز على غيرها من الأدوات التقليدية كدراسات الجدوى والتخطيط الإستراتيجي وخطط العمل وآليات اختراق السوق أو التخطيط على أساس الحصة السوقية وغير ذلك، فقد أصبحت هناك قناعة عميقة بقوة تأثير هذه الأداة وأعني نموذج العمل حينما تتم صياغته على أساس من الابتكار والأفكار الإبداعية المستندة على التكنولوجيات الحديثة، وبات بناء نموذج العمل المخرب تحديدا هدفا وتحديا يسعى له رواد الأعمال الذين يرغبون في الدفع بشركاتهم الناشئة للأسواق الكبرى، وضمان تقبل هذه الأسواق لشركاتهم بسرعة والوصول إلى العملاء في أقل وقت ممكن، من خلال الزخم والقوة الدافعة التي تمنحها المزايا التنافسية لنماذج الأعمال المخربة، بهدف إرباك السوق وإدخال الشركات الكبرى في الحالة التي أشار لها كريستنسن بمعضلة المبتكر، والتي من خلالها تتمكن شركاتهم الناشئة من احتلال مواقع مؤثرة في السوق وتقذف باللاعبين المخضرمين خارج ساحة المنافسة. ولكن، على رواد الأعمال الناشئة الانتباه إلى أمر مهم وهو أن إيجاد نموذج عمل فريد من نوعه لا يعني أن تتواجد المنشأة الجديدة وحيدة في قطاع عمل لا يوجد به غيرها، فلا يمكن أن تصمد هناك بمفردها، ولكن يجب أن تحدد لأعمالها السوق المناسب الذي تستهدف التأثير فيه بقواعدها الجديدة التي سيفرضها نموذج عملها المخرب، وغالبا سيكون ذلك في سوق يكتشف فيه رائد الأعمال احتياجات غير محددة بعد وغير ملباة ولم يسبق الانتباه إليها، وذلك ما سيمنح منشأته فرصة التميز بالابتكار وبالتالي توجيه قواعد السوق.

@piolc