محمد الحرز

هل حقا تقنعنا مقولة علم الاجتماع: كل شيء في مجال الحياة يتحول مع الزمن وآثاره إلى شيء آخر. لكنه لا يختفي بالمطلق. فإذا ما تتبعنا جملة من الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية، التي كانت سائدة في مطالع التسعينيات الميلادية، ثم وضعناها على محك تلك المقولة، فما الذي يا ترى ستمنحنا من نتائج ودلالات؟

عليّ أن ألفت نظر القارئ أنني من موقعي هذا أحاول أن أتأمل أربعة عقود مضت في مسيرة المجتمع السعودي، وهو أمر يصعب احتواؤه في مقالة عابرة. لكن ما يحفزني على الإجابة والمضي قدما في تأمل المسألة، هو الاعتماد أولا على التجربة الذاتية كوني واحدا من الذين تفتحت ذهنياتهم الفكرية والأدبية والثقافية في تلك الحقبة، ثانيا على تجارب الأصدقاء الذين وإنْ اختلفت تجاربهم الشخصية ثقافيا وفكريا واجتماعيا إلا أن ثمة تماثلا في العمق فيما بينها بحكم الهم المشترك والطموح والرغبة في إثبات الذات.

لذلك ما سوف أتأمله هنا ليس سوى شهادة على فترة زمنية أظنها كانت بداية المنعرج نحو التحولات، التي استقرت عليه الآن الصورة الحالية لمجتمعنا السعودي.

وحتى نتمكن أن نختبر تلك المقولة، ينبغي علينا أن نختار ظواهر تنطبق نتائجها على عموم المجتمع السعودي وتنسحب عليه، وإّلا فإن هناك ظواهر اجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية لا تتصل مفاعيلها وتحولاتها زمنيا سوى بالمجتمعات المحلية كالمجتمع الإحسائي أو الجيزاني على سبيل المثال لا الحصر، وإن كان بعض المؤرخين يرى أن مثل هذه التحولات ومفاعيلها في المجتمعات الصغيرة لها تأثيرها من خلال «المديات الطويلة» على المجتمعات الكبيرة، وإن اختلفوا في المدة الزمنية لهذه المديات.

على العموم، سنختار إحدى الظواهر الأكثر أثرا وأهمية في تحولات المجتمع السعودي، وهي ظاهرة التحول الثقافي المعرفي من الانغلاق إلى الانفتاح، التي كما قلت بدأت بوادر ظهورها في حقبة التسعينيات، وكان للتوجه نحو الاهتمام بالفكر والرواية هو الصبغة العامة، التي اتسمت بها تلك الحقبة (في مقالة سابقة تحدثت عن الأسباب السياسية والفكرية والاجتماعية، التي استدعت مثل هذا التوجه والاهتمام)، فالشباب من جيلي من مختلف المناطق كانوا يغذّون لقاءاتهم واجتماعاتهم على مثل هذا الاهتمام، وكانت الأقسام الثقافية في الصحف قد لعبت دورا كبيرا في انتشار مثل هذا الاهتمام بين هذا الجيل. لذلك تشكلت حركة فكرية شبابية كانت تتلقفها بالاحتضان والرعاية والاهتمام الأندية الأدبية والمؤتمرات، التي كانت تنظمها وزارة الثقافة، والأهم أنه حدثت روابط اجتماعية وسّعت من دائرة التأثير والتأثر، بالخصوص بين أبناء مختلف مناطق المملكة من مبدعين ومثقفين ونقاد.

وما زاد من هذا التأثير وسرّعه أيضا كما أرى هما عاملان التحولات السياسية، التي عاشتها المنطقة بعد أحداث حرب الخليج الأولى وحرب تحرير الكويت، والعامل الآخر ثقافي عقائدي وهو عنصر التمايز، الذي استطاع أن يحدد هوية هؤلاء الشباب باعتبارهم هوية مختلفة كما وعوها هم، بعيدا عن هوية التيارات السلفية، التي لم تر في هؤلاء الشباب سوى منحرفين عن جادة الطريق، ينبغي مناصحتهم أو محاربتهم إذا استدعى الأمر، وهناك الكثير من الأحداث والقصص يمكن ذكرها في هذا الإطار.

يضاف إلى ذلك سرعة التطور التقني والمعلوماتي والمعرفي، الذي طال كل المجتمعات في العقود اللاحقة من حقبة التسعينيات.

بقي أن نختبر المقولة، التي صدرنا بها المقال. فعلى مستوى الأفراد، هناك فئة من الشباب تحولوا من التطرف السلفي بتأثير تلك العوامل إلى التطرف العلماني، فما تغير من الشخصية هو الموقع لا غير، بينما الجوهر ما زال كما هو في نظرته الثقافية والاجتماعية.

وعلى مستوى الأفكار وبالخصوص الإبداعية منها التي تجسدت في الأعمال الروائية والشعرية لم تبارح مكانها من العوالم، التي انزاحت عنها منذ حقبة التسعينيات، التي ظلت عالقة في نظرتها الوظيفية للعمل الإبداعي، ما تغير هو السطو على اللغة الأدبية بسبب سهولة توافرها والحصول عليها وامتلاء الساحة بها.