د. عبدالله محمد القرني

لم تعد الصناعات الوطنية تعبيراً عن حالة التطور والتقدم العلمي والتقني، التي وصلت إليها الدول أو أحد العوامل الرئيسية لدعم الاقتصاد الوطني والناتج المحلي فقط، بل إنها أصبحت حاجة ملحة وجزءا لا يتجزأ من الأمن الوطني لأي دولة والشواهد على ذلك كثر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر جائحة كورونا، التي ضربت العالم بأسره، وأوقفت طرق التجارة، وشلت سلاسل الإمداد العالمية حتى وصلت إلى إغلاق الدول وعزل بعضها عن بعض، ناهيك عن الدول، التي تعيش في أقاليم مضطربة ومتوترة أو حالات حرب بشكل أو بآخر.

وقد بدأ الاهتمام بالصناعات الوطنية في المملكة العربية السعودية منذ أكثر من 45 عاماً من خلال خطط التنمية الخمسية المتتالية، حيث تشير التقارير والدراسات إلى نمو عدد المصانع في المملكة بنسبة تقدر بحوالي 293% بين أعوام 1974م و2018م أي بمعدل 169 مصنعاً سنوياً، ولكن مع انطلاق رؤية المملكة 2030م وظهور عدد من المحفزات والممكنات كهيئة المحتوى المحلي، والمشتريات الحكومية، وبرنامج تطوير الصناعات الوطنية والخدمات اللوجيستية (NIDLP)، الذي دشن في العام 2019م، وكذلك برنامج «صنع في السعودية» -الذي أُطلق مؤخراً- فقد شهد عدد المصانع المحلية قفزة قوية، حيث وصلت أعداد المصانع الوطنية في عام 2020م إلى 9563 مصنعاً حسب الإحصائيات الرسمية أي بمعدل يفوق 500 مصنع سنوياً في العامين الماضيين، ويمثل ذلك ثلاثة أضعاف المعدل السنوي السابق.

وتتوزع المصانع الوطنية في حوالي 24 نشاطا بنسب متفاوتة تحتل صناعات المعادن اللافلزية والمطاط واللدائن والمعادن المشكلة والمنتجات الغذائية أكثر من 50% من هذه المصانع، وهذا الانتشار الأفقي لا شك أنه مهم ويدعم توطين الصناعة الوطنية ولكني اقترح أيضاً أن يتم استهداف أسلوب التوطين الرأسي للصناعة، الذي يبدأ من المواد الخام مروراً بالعمليات التصنيعية واليد العاملة وصولاً إلى المنتج النهائي وخدمات ما بعد التصنيع، بحيث يتم التركيز على القطاعات، التي يمكن رفع مستويات المحتوى المحلي (Local Content) فيها بشكل كبير.

ويعتمد أسلوب التوطين الرأسي على استهداف تصنيع المنتجات، التي تدخل في مكوناتها الثروات المعدنية المتوافرة في المملكة كمواد خام بنسب عالية -وهي كثيرة ولله الحمد- ويمكن أن يتشارك أكثر من مصنع في تصنيع هذه المنتجات ويلحق بالمصانع الرئيسية لهذه المنتجات الصناعات والخدمات المساندة لها فيما يسمى بالتجمعات الصناعية واستكمالاً لتعزيز المحتوى المحلي لهذه المنتجات، فيتم تمكين اليد العاملة السعودية من فنيين ومهندسين، وكذلك بقية التخصصات المساندة، ويتطلب تبني هذا الأسلوب وجود حزم من السياسات التحفيزية تعدها الجهات ذات العلاقة لجذب المصنعين والمستثمرين للدخول إلى هذه الصناعات.

ولهذا الأسلوب عدد من الفوائد المتوقعة تتلخص في خلق صناعات وطنية ذات محتوى محلي مرتفع وقيم تكلفة منخفضة نسبياً، وتحقيق عنصر التخصصية والميزة التنافسية على المستويين المحلي والدولي، بالإضافة إلى تحقيق متطلبات الأمن الوطني، ورفع مستويات الناتج المحلي، وجذب المستثمرين محلياً ودولياً، كما أنه سوف يسهم في تنمية جوانب نقل التقنية (Know How) وتعزيز نشاطات البحث والتطوير والابتكار، وزيادة عدد الكليات والمعاهد التقنية والهندسية، التي تدعم هذه القطاعات مباشرة وتسد الاحتياج المتوقع بها، وكذلك احتياج خدمات ما بعد التصنيع مثل خدمات التشغيل والصيانة والإصلاح، وكل هذه الجوانب تعتبر من المستهدفات الرئيسية لرؤية المملكة 2030.

@abolubna95