ليس من السهل على المؤرخين العرب التصدي لمهمة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي منذ بواكيره الأولى، فالصعوبة لا تكمن في قلة الوفرة من أسماء المؤرخين الذين درسوا هذا التاريخ من جوانبه المتعددة، وقاربوه من زوايا منهجية مختلفة، ولا تكمن أيضا في قلة المصادر التي انحدرت إلينا من حضارة زاخرة بكبار المؤرخين من الطبري إلى ابن خلدون، ولا قلة الكتاب المستشرقين الذين يحسب لهم أنهم من الأوائل الذين تناولوا قضايا في التاريخ الإسلامي: فكرية وعقائدية وسياسية وأدبية واجتماعية، مثل فلهاوزن أو نولدكه، أو كارل بروكلمان أو جوزيف شاخت، وذلك إذا ما اكتفينا بالاستشراق الألماني الكلاسيكي، الرصين في طرحه والعميق في بحثه، والموسوعي في معرفته.
لكن رغم كل هذه المعرفة التي توافرت حول تاريخنا الإسلامي إلا أن الصعوبة تكمن في السؤال المحير الذي ظل عالقا في الذهن: فإذا كنا بداية متفقين على أن من المهمات الكبرى للمؤرخ هو أن يعيد قراءة التاريخ بوعي نقدي تنويري، ركيزتاه الرؤية المغايرة من جهة والتسلح المنهجي المنفتح على العلوم الإنسانية من جهة أخرى، فإن نتائج هذه القراءة كما هو متوقع بالنهاية ستؤدي إلى تجديد النظر للماضي موصولا بالرؤية للمستقبل، مما يفسح في المجال للتخلص من إسار الانغلاق على أفكار ماضوية.
لكن واقعنا الحالي يشي بخلاف ذلك، فالتشرذم والركون لخلافات الماضي واستحضاره في أزمات الحاضر هو السائد. فلماذا هذه المفارقة، هذا هو جوهر سؤالي؟!
يحيلني هذا السؤال إلى الحديث عن المؤرخ والمفكر هشام جعيط المسكون بهواجس التاريخ والمهموم بقضايا فلسفية والنظر الانثربولوجي، وهو الذي توفي الأسبوع الماضي عن عمر ناهز 86 عاما بعد أن قضى جل عمره في البحث والدرس والتأليف، إذ يعد الأب المؤسس لدراسات الإسلام المبكر في الجامعة التونسية.
وثمة سببان عندي لهذه الإحالة:
الأول منه يتعلق بمشروعين سياسيين متقاطعين في النظر إلى بناء الدولة، فترة ما بعد الاستقلال الوطني منذ خمسينات القرن الماضي، فهناك المشروع القومي الناصري في مصر، وبالمقابل هناك مشروع (بورقيبة) التحديثي في تونس المرتكز على مقومات الحداثة الغربية في التعليم وتحرير المرأة وبناء مجتمع عقلاني حديث. الأول ينطلق من معاداة للغرب الإمبريالي بينما الآخر ينطلق من استلهام النموذج وتطبيقه دون مراعاة أي شيء آخر.
الثاني، على خلفية هذين المشروعين يمكن الإجابة عن شق من السؤال السابق، فالمشروع القومي الناصري هيمنت نظرته على تيار شاسع من المؤرخين القوميين في المشرق العربي. ناهيك عن أثر الجيل الأول من مؤسسي التأريخ للقومية العربية المتكئة على التوجه الماركسي بداية من ساطع الحصري إلى قسطنطين زريق إلى عبدالعزيز الدوري أو عادل غنيم.
لذلك لم يكن من المصادفات أن تبتكر الدولة العربية في بعض الأقطار تاريخها القومي انطلاقا من حدودها الجغرافية، مما أخضع مدونات التاريخ الإسلامي في الكثير من التوجهات تحت تشريح النقد الإيديولوجي، وألبسه الثوب القومي بأثر رجعي.
بينما مؤرخ مثل هشام جعيط سليل بيت تربى أفراده على التقاليد الدينية في جامع الزيتونة، ودرس في المدرسة الصادقية المنفتحة على التعليم الحديث، واستكمل تعليمه الجامعي في السوربون بباريس محملا بمعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ومصادره وبالعلوم الإنسانية الحديثة. يضاف إلى ذلك احتكاكه بالتجربة البورقيبية عن قرب، إذ كل هذه العوامل اتضح أثرها عندما أصدر باكورة إنتاجه «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» بالفرنسية عام 1974م ثم صدرت طبعته العربية من دار الطليعة ببيروت عام 1984م.
إنه كتاب يعكس بعمق القضايا التي كانت تفرزها التجربة البورقيبية على أرض الواقع كالدولة الوطنية، والدور المناط للتاريخ لرسم الهوية والشخصية، والاجتهاد في تقديم نظرة جديدة للتاريخ العربي، متكئا على معرفة واسعة في العلوم الإنسانية والتاريخية، منتهيا إلى «أن الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية الإسلامية».
إن النتيجة المتوخاة من هذا العرض هو: خطاب جعيط منظورا إليه من الموقع التاريخي والمعرفي التربوي والجغرافي يختلف كلية عن خطاب منظور إليه تحت وطأة النقد الإيديولوجي القومي، رغم أن مآل المشروعين انتهى إلى غياب الحريات.
mohmed_z@hotmail.com
لكن رغم كل هذه المعرفة التي توافرت حول تاريخنا الإسلامي إلا أن الصعوبة تكمن في السؤال المحير الذي ظل عالقا في الذهن: فإذا كنا بداية متفقين على أن من المهمات الكبرى للمؤرخ هو أن يعيد قراءة التاريخ بوعي نقدي تنويري، ركيزتاه الرؤية المغايرة من جهة والتسلح المنهجي المنفتح على العلوم الإنسانية من جهة أخرى، فإن نتائج هذه القراءة كما هو متوقع بالنهاية ستؤدي إلى تجديد النظر للماضي موصولا بالرؤية للمستقبل، مما يفسح في المجال للتخلص من إسار الانغلاق على أفكار ماضوية.
لكن واقعنا الحالي يشي بخلاف ذلك، فالتشرذم والركون لخلافات الماضي واستحضاره في أزمات الحاضر هو السائد. فلماذا هذه المفارقة، هذا هو جوهر سؤالي؟!
يحيلني هذا السؤال إلى الحديث عن المؤرخ والمفكر هشام جعيط المسكون بهواجس التاريخ والمهموم بقضايا فلسفية والنظر الانثربولوجي، وهو الذي توفي الأسبوع الماضي عن عمر ناهز 86 عاما بعد أن قضى جل عمره في البحث والدرس والتأليف، إذ يعد الأب المؤسس لدراسات الإسلام المبكر في الجامعة التونسية.
وثمة سببان عندي لهذه الإحالة:
الأول منه يتعلق بمشروعين سياسيين متقاطعين في النظر إلى بناء الدولة، فترة ما بعد الاستقلال الوطني منذ خمسينات القرن الماضي، فهناك المشروع القومي الناصري في مصر، وبالمقابل هناك مشروع (بورقيبة) التحديثي في تونس المرتكز على مقومات الحداثة الغربية في التعليم وتحرير المرأة وبناء مجتمع عقلاني حديث. الأول ينطلق من معاداة للغرب الإمبريالي بينما الآخر ينطلق من استلهام النموذج وتطبيقه دون مراعاة أي شيء آخر.
الثاني، على خلفية هذين المشروعين يمكن الإجابة عن شق من السؤال السابق، فالمشروع القومي الناصري هيمنت نظرته على تيار شاسع من المؤرخين القوميين في المشرق العربي. ناهيك عن أثر الجيل الأول من مؤسسي التأريخ للقومية العربية المتكئة على التوجه الماركسي بداية من ساطع الحصري إلى قسطنطين زريق إلى عبدالعزيز الدوري أو عادل غنيم.
لذلك لم يكن من المصادفات أن تبتكر الدولة العربية في بعض الأقطار تاريخها القومي انطلاقا من حدودها الجغرافية، مما أخضع مدونات التاريخ الإسلامي في الكثير من التوجهات تحت تشريح النقد الإيديولوجي، وألبسه الثوب القومي بأثر رجعي.
بينما مؤرخ مثل هشام جعيط سليل بيت تربى أفراده على التقاليد الدينية في جامع الزيتونة، ودرس في المدرسة الصادقية المنفتحة على التعليم الحديث، واستكمل تعليمه الجامعي في السوربون بباريس محملا بمعرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي ومصادره وبالعلوم الإنسانية الحديثة. يضاف إلى ذلك احتكاكه بالتجربة البورقيبية عن قرب، إذ كل هذه العوامل اتضح أثرها عندما أصدر باكورة إنتاجه «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» بالفرنسية عام 1974م ثم صدرت طبعته العربية من دار الطليعة ببيروت عام 1984م.
إنه كتاب يعكس بعمق القضايا التي كانت تفرزها التجربة البورقيبية على أرض الواقع كالدولة الوطنية، والدور المناط للتاريخ لرسم الهوية والشخصية، والاجتهاد في تقديم نظرة جديدة للتاريخ العربي، متكئا على معرفة واسعة في العلوم الإنسانية والتاريخية، منتهيا إلى «أن الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية الإسلامية».
إن النتيجة المتوخاة من هذا العرض هو: خطاب جعيط منظورا إليه من الموقع التاريخي والمعرفي التربوي والجغرافي يختلف كلية عن خطاب منظور إليه تحت وطأة النقد الإيديولوجي القومي، رغم أن مآل المشروعين انتهى إلى غياب الحريات.
mohmed_z@hotmail.com