هناء مكي

كما كنت أقول دائما نحن لدينا بيئة عمل طاردة، لا يمكن بأي حال أن تشيد عمارة على أرض طينية، لا بد للأرض من أن تُصلّح حتى يمكن البناء عليها، وللأسف افتقاد الأمن الوظيفي اليوم في غالبية الوظائف جعل من القواعد الإنتاجية هشة، ولا يمكن أن يعول عليها.

ولأن أغلب مَنْ يعطي هو فاقده، فإن انعدام الأمن الوظيفي في بيئة عمل خدماتية لا يمكن أن تكون نموذجية وتؤدي الخدمة المطلوبة بنجاح، ولعل أكثر الفساد إجراما ومرضية هو تسلط مسؤول أو موظف ذو درجة أرفع باستخدام نفوذه ودرجته، بقصد محاربة مَنْ يشكل له عقدة نقص. أبرز مشاكل الفساد الإداري لدينا بالذات في الدول العربية والخليجية يكمن في المحسوبيات وبمجرد تمكن موظف من سلطة ما وتحويل وظيفته إلى «دكانه الخاص»، وكأنه يملكه فعلا، فيستعبد كل مَنْ يقدر عليهم بطريقة تعود لشخصيته الانتقامية أو المريضة، فيتسلط حتى على مَنْ لا يسلّم عليه بطريقة تعجبه، ويحاول أذيته بكل ما أوتي من قوة للانتقام منه حتى لو كان على حساب قطع رزقه، فقط ليؤكد لنفسه تملكه لدكان ليس بوارثه.

أعجب ما رأيت في مشواري العملي هو هذا النوع الغريب من التسلط والتملك وبالتالي الاستعباد، ومن خلال عملي في بيئتي عمل مختلفتين بين الخاص والعام أستطيع أن أؤكد أن تجربة القطاع العام هي الأكثر سوءا، وتحتاج إلى إشراف ورقابة لضبط ومحاربة للفساد فيها، فعلى الرغم من توطين الوظائف في هذا القطاع، ومن المفترض أن نسبة الأمان الوظيفي عالية بسبب ثبات الوظيفة وتدرجها المهني، إلا أن معدل الفساد الإداري والتسلط التملكي فيها يعود بالويل والثبور على العاملين، وينعكس مردوده برجع الصدى على متلقي الخدمة ألا وهو المواطن.

لا يمكن للموظف أن يتطور وهو يعاني من انحسار الأمن الوظيفي بسبب تسلط ثلة من المحسوبين على المتنفذين يضيقون عليه، حتى إني شهدت انسحاب العديد من العمل بالذات من النساء بسبب انعكاس الوضع السيئ من التسلط والاستعباد الوظيفي عليهن.

تقول لي إحداهن ممن فضلت الاستقالة على الوظيفة الحكومية إنها باتت تفقد أعصابها وقوتها، وتعود للبيت لتعكس التعب النفسي والجسدي على صغارها، تؤكد أن أطفالها صاروا انطوائيين ويعانون من قلة الاستيعاب في التعليم، إنها تخسر ليس نفسها وحسب بل أطفالها، والسبب وجود أشخاص يعانون من تراكمات نفسية ونقص واضطرابات في الثقة يسقطون بلاءهم على مَنْ هم أضعف منهم، وغالبية ضحاياهم من النساء وكانت هي ضحية أيضا.

الكثيرات تشتكين من ضياع حقوقهن، فمثل هؤلاء لا يمكن محاسبتهم أو حتى إظهار أفعالهم المخزية، لا يمكن الحديث عن طرق الضغط، التي يمارسونها للتحكم والسيطرة ونيل مبتغاهم البعيدة كل البعد عن المهام الوظيفية المكلفة، ولكن يمكنهم بكل سلطتهم أن يؤكدوا أنهم على حق، وأن الطرف المظلوم ما هو إلا موظف سيئ لا يقوم بواجبه ولا يمكن الاعتماد عليه، فهذه أهون الحجج للتخلص منه، فمثل هؤلاء مستعدون أن يقسموا أنهم على حق، فمَنْ يمتلك أخلاقا لقطع أرزاق الضعفاء لن يتوانى من أن يقسم اليمين كذبا وزورا.

ما يشكل الفارق بين القطاع العام والقطاع الخاص، هو ما يجعلني أردد المثل العامي «المال السايب يعلم السرقة»، فالقطاع الخاص هو مشاريع خاصة ومفهوم النفوذ والتملك والمحسوبية سيكون واردا، وبالمقابل فإن الشركة هي ملك خاص وسيسعى ملاكها بكل الطرق لحل مشاكلها للوصول إلى سلم الربحية، بينما في القطاع العام يعتمد على حس الواجب المفقود، والأمان الوظيفي انعكس إلى مضرة جعلت من الموظفين السيئين يتسيدون الموقف دون محاسبة ودون أن يوقفهم أحد، وبالتالي من أمن العقاب أساء الأدب، وجعل بيئة العمل جحيما تفتقد للأمان الوظيفي، وتكثر بين موظفيها الأمراض والتغيب وانخفاض الإنتاجية وتذمر الناس.

هذا النوع من الفساد يلزمه حل بإظهار جدية مكافحته، وأن تخصص له أرقام ساخنة أو لجنة خاصة للتبليغ والتحقيق، يجب أن يعاقب مثل هؤلاء السيئين، الذين يفتقدون الأمان في حياتهم ويحولون تجاربهم الشخصية إلى طوق عنق للسيطرة على مَنْ يتحكمون فيهم، ومَنْ لديهم السلطة أو القدرة عليهم.

وجب وقف مثل هذه الأمراض الوظيفية، وخلق بيئة عمل مطمئنة وصحية كأرض صالحة للبناء، بالذات في قطاعاتنا العامة التي تقدم خدماتها للمواطنين، فهذه البيئات أجدر أن نوليها أهمية، وأن يعطى الموظفين اطمئنانا بمساندتهم مقابل تسلط أصحاب النفوس المريضة.

@hana_maki00