يوسف الحربي يكتب:

منذ ظهور الاهتمام بالفن بمختلف مشاربه عبر الاقتناء والاحتفاظ بكل ما تميز منه وذلك من قبل المهتمين وغيرهم أيا كانت مقاصدهم، بدأت جدلية ماهية الفن وأحقية الفنان في التكسب من فنه عبر تسويقه بشكل شخصي ومباشر أو التوقف عن ذلك وتركه للمعنيين على اعتبار أهمية أن ينأى الفنان بنفسه عن التسويق الذي يرونه مخلا بقيمته ومستواه المفترض.

وهنا كمتابعين سنكون أمام جدلية مُحيرة تماما تشبه تلك الجدلية التي تضع مسار التشكيلي الهولندي «فان جوخ»، أمام التشكيلي الإسباني بيكاسو في تقديم كليهما لفنه، أي بين فنان لم يبع في حياته سوى لوحة واحدة هي لوحة «مزارع العنب الحمراء 1888» بأقل من ألف دولار تقريبا، وعاش بفنه بائسا وكئيبا ومجنونا ومُعدما حيث لم تعرف أعماله سعرها الحقيقي إلا بعد وفاته وبين فنان أحاط نفسه بمؤسّسة مُتكاملة عملت على حفر اسمه حيا وميتا بثبات وتفوّق وأسلوبية وفن وتوازن قيمي مادي وفني.

وتلك المفارقة الحقيقية هي التي أوصلت الفنانين إلى العالمية ولكن كل حسب المسار الذي اختار العمل من خلاله والفلسفة التي اختارها، فبين من حمله الفن للشقاء وبين من حمله الفن للثراء، هناك خطوات ومسارات وحكاية وتخطيط كأن يمشي الفنان على خيط رفيع بين المجد والفن والحياة والاستمرار دون أن يغفل عن المتلقي بكل أطيافه وكذلك عن سوق الفن إن صح الاعتراف في الفن بهذا المصطلح.

إن هذا الطرح التحليلي الذي بدأ بتصوّر أولي لم يغفل عن المسار التأريخي لكلا التجربتين من حيث الزمان والمكان والحالة والطموح الفني ودرجات الجنون الفنية وبالتالي ليس التحليل هنا مبنيا على مقارنة تهم الخصوصيات الفنية بل المسارات التسويقية التي طرحها كلاهما دون أن يشعر ولكن بقرار ورغبة، وهو ما من شأنه أن يقدّم تفسيرا للفنانين حتى يكون لهم خبرة تسويقية ناجحة ولم لا استثمار في طموحهم الفني وهذا لا يمكن أن يحط من شأن الفنان أو يغيّر قيمة الفن.

كان بيكاسو الفنان الأكثر عمقا في فهم سوق الفن منذ اتباعه خطوات الثبات الفني لم يهدأ لحظة عن البحث في الثقافات والملامح في التصورات والتجديد في التمرد والجنون في القيمة والبعد والضوء والمدارس في الحالات والتناقضات في لغة الوجود والرغبة والشغف والتمادي معها إلى درجة التماهي، كل تلك المقاييس كوّنت لديه موروثا فنيا وتصورا خاصا فتح له مجالات مختلفة كثيرا ما أغرت المقتنين والمتابعين والنقاد وكثيرا ما خلقت بينه وبينهم صلة جعلته يجد أول مفتاح تسويقي للفن، المغامرة الفنية والإنتاج المتجدّد والجدل القيمي والثقة تلك الثقة التي جعلته يجيد التخاطر بينه وبين المتابع والمقتني واللوحة بالخامات والأسلوب والفكرة والمتابعة، كان بيكاسو مفتوحا من حيث الفهم البصري مُغريا من حيث الغموض المُتجلي في حضوره الجمالي، مرنا من حيث النقد، ذكيا من حيث الوساطة البصرية تلك التي أغنته عن التفسير وأراحته من التواصل والبحث عن المقتنين، فقد عرف بيكاسو ميكانيزم العمل الفني كقيمة ذات جودة ورؤية وريادة فرضت نفسها لتكون مادة تسويقية عالية الحضور قادرة على خلق المفاجآت البصرية.

وبالتالي كان بيكاسو كلما قدّم فنه للعالم شعر بالخلود والتجلي والتماهي والبحث وأغرته التجربة بالمغامرة في الفن والتعمقّ خاصة وأن الجدل الذي تثيره أعماله كان محطّ انتظار ومتابعة رسمت خلالها فرنسا خطوط الفلسفة البصرية وجدلياتها وممارساته.

وهنا نعود على فان جوخ أولا من حيث جغرافيا التعبير وحدودها الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها على المهتمين والمتابعين ما جعله يتوارى مع لوحاته ولا يبحث عن تسويقها لأنه اعتبرها موروثه الخاص والحقيقي الذي كلما أخفاه في حياته أصبح أكثر قيمة بعد وفاته، فقد تقوقع على آلامه وانعزل على حاجاته وأخفى ذاته وانغمس في الفن بكل حالاته ولوحاته التي لم تظهر إلا بعد وفاته فقد كان البارع لونا وامتدادا للمدرسة الانطباعية والتعبيرية وحتى الوحشية في بعض أعماله، عبقريا في تركيز اللون المائي والارتحال به في مساحات عميقة واستغلال الضوء وتعميقه بكثافة مُدهشة، فاتحا منافذ التجريب التي أنطقت كل الجماد، غير أن عزلته وحالاته وقلة ثقته في المقتنين وغروره الفني وخوفه على أعماله حالت دونه ودون التسويق وبالتالي تأخر الترويج لأعماله إلى ما بعد وفاته.

إن علاقة الفنون التشكيلية والبصرية بفكرة الاقتناء هي تطوّر تحوّل إلى استثمار وتفاعل مع المنجز يحتاج التعامل معها إلى إدراك بالمدى الثقافي الفكري الاجتماعي والاقتصادي لأن الوعي بالجمال والذوق يعتبر القيمة التي تتعالى على القيمة الأصلية في الفن والتي بدورها تُعلي القيمة الإنسانية في بناء الفكرة التأسيسية للتعامل مع الفن قبل كل شيء كمنجز لا كسلعة لأن الفن أثناء عملية الاقتناء يتحوّل من مرحلة البحث الفردي إلى البحث الجماعي التي تجعله بعيدا عن مفاهيم الاستهلاك السائدة.

‫ yousifalharbi@