سعود القصيبي

من منا لا يعتد بتراثه، ومن منا لا يهتم بتاريخه وإرثه العظيم. إلا أن هناك بالفعل من لا يسأل وكأن الأمر لا يعنيه وهو شيء اعتدنا عليه بمجتمعنا. وهي ثقافة عامة مخيبة للآمال انتشرت ومنذ سنوات بمنهج وعقيدة التجديد والتحديث من الهدم والإزالة لكل ما هو قديم وحتى إن كان يمس الوجدان.

إلا أن الأيام تسارعت والوقت تغير كما أن أساليب العمل تطورت ولا يجب أن نعيش بالماضي كما يجب أن تتطلع للمستقبل ولما هو آت لنا ولأحفادنا من نهضة أممية تتطلع لها شعوب العالم بل وتحذو حذوها. إلا أن الكثير من أطياف المجتمع ما زال ينظر إلى القديم بالسيئ ولم يستوعب الدرس. كما لم يستوعب أنها الركيزة التي تتكئ عليها الأمم لبناء حضارتها من دروس وعبر. فإن فقدت أصبحت نظريات لا معنى لها لا تفقد إلا الحس الحضري وتؤول كيفما شاءت وأتت.

فإن نظرت اليوم إلى أهم دول العالم والتي أثرت بالإنسان وتطوره لرأيت الاستمرارية وإلى عهدنا الحاضر ولا نقتصر فاليونان هي اليونان وروما ما زالت هي روما. فما يصنع الأمجاد هو التتابع لتلك الحضارات وحتى إن انفصلت عنها فهي من أسبابها. فبناء التاريخ والحفاظ عليه من أهم مقومات نهوض الأمم وهي لا تعتد بدين أو بمذهب عقيدي أو توجه فكري. فالأرض هي الأرض بطبيعتها التي أثرت وتأثرت بفعل الإنسان وشكلت هويته وتراثه. وهي التي بنى فيها الإنسان تجاربه ومن حكم ومواعظ. وهي المكارم للأخلاق القديمة ونمط أساليب العيش الكريم.

والعرب ومنذ الازد البائدة هم العرب بتعدد وتطور ألسنتهم وعقائدهم وتعدد طوائفهم وعبر التاريخ. وإرثهم هو إرث واحد نابع من جغرافية الجزيرة بسهلها وواديها وجبلها. ومن أبلغ شواهدها تلك الوسوم والنقوش والكتابات الصخرية والتي نشاهد تكرارها وفي كل أنحاء الجزيرة. وما تلك التي نقبت حديثا من قبل أثريين وسميت بالمستطيلات، إلا أحد معالم تلك الثقافة والهوية العربية الموغلة بالقدم والتي منها جذورنا التي أسستنا بل وأسست ثقافة أغلب العالم من قدمها. فمعرفتها هي من معرفة ذاتنا ووجدنا ومن أين أتينا ومن أين أتى مختلف فرقنا بل وحتى إسلامنا.

ونحن مع صراع فكري ممن يجهل كل ذلك بل ويحاول طمس معرفته من الخيبة. وقد كنا ونحن صغار نذهب إلى أماكن عمرها أكثر من أربعة آلاف عام، إلا أن اليوم نراها وحدات سكنيه. وكنا نشاهد قلاعا وآبار وأسوارا اختفت تحت معاول الهدم والبناء. وكنا في ترحالنا نشاهد مساجد عمرت بالحجر قديمة أزيلت تلك هي الأخرى وراء دعاوى عبادة الأصنام وتوسعة البناء. كما من المشاهد خنق تاريخي يدفن هو الآخر لتوسعة طريق، ومن جبل ومغار عبث بها ومداخله حتى أصبح الوصول إليه ملتويا من غير هداية يخلو من العبر ومن الشواهد التاريخية. أو أماكن معارك غيرت معالمها حتى أصبح ذكرى وكما النسج من خيال تروى فقط بالكتب بل وتكذب.

وليس بعيدا وما زال بالأذهان مما اكتشف من مسجد عمره ومنذ زمن الإسلام الأول يهدم ويعاد بناؤه أو من تلك المساجد التي ترمم على غير نشأتها وتطمس جدرانها وتغيير معالمها ونمطها المعماري. كما ليس بعيدا منا رؤيتنا لذلك البناء القديم بفسيفسائه وراحته ونقوشه والأصداف المبعثرة نواحيه، وفرنه بعد اكتشافه ينقل من مكانه ويهمش. أو من تلك النقوش الجصية والتي تعد من أفضل الأمثلة والوحيدة مما ولدته حضارتنا من زخارف نعتز ونفتخر بها عالميا، فلا نكاد نراها بفعل التقادم والإهمال والجهل.

نحن لا نريد أن نكون كمن أضاع تراثه وتاريخه فلا يكاد يجده إلا من خلال مطويات الورق البالية يبحث فيها عن دخان أو سراب فلا يكاد يجده. أو من أن نكون مقلدين لغيرنا بالتراث نجمع خياله فيضيق علينا الرداء أو من أن يخب علينا. ونحن أمام تحول ونقلة تاريخية وضعنا فيها جل آمالنا وأحلامنا ولما هو أفضل. ويبقى في النهاية الإنسان هو الإنسان بسلوكه وفكره وثقافته. ونتمنى أن ينسى كل فرد منا حب الذات لينتقل إلى حب وعشق الوطن بطموح وهمة تلك النقلة الحضارية من التحول الوطني وإلى كل ما فيه رقي وازدهار.

@SaudAlgosaibi