د. محمد حامد الغامدي

n بيد الإنسان التحكم في البيئة، بجعلها تستقبل أمطارا أقل أو أكثر. كنتيجة ركزت اهتمامي أثناء تواجدي في قريتي (الطلقية) بـ(منطقة الباحة)، على وضع برنامج علمي، يخدم ويدعم قضيتي (الماء). اعتبرت البيئة أشبه بالمطارات. فهناك مطارات واسعة تستقبل أضخم وأكبر الطائرات. وهناك مطارات صغيرة تستقبل طائرات أصغر. كذلك البيئة تستقبل أمطارا غزيرة، وبعضها يستقبل زخات سنوية لا يعول عليها. بعض البيئات أيضا تستقبل السيول المنقولة بكميات مهولة. وأخرى تكون روافدها محدودة. الإنسان مع البيئة قادر على فعل الشيء ونقيضه.

n كانت انطلاقتي أولا نحو سهول تهامة، كتبت عن هذه السهول، بعدها جاءت المرحلة الثانية، التوجه شرق جبال الحجاز والسراة. اخترت بيشة نقطة التوجه لسبر غور الأودية وامتداد الجبال نحوها شرقا.

n هذه زيارتي الثانية لـ(بيشة). الأولى كانت جوا عام (1423هـ - 2002م). وذلك للمشاركة في لقاء عن المياه بكلية التقنية. فكانت صدمة العمر. شاهدت من نافذة الطائرة نخلا مهولا منتصب القامة ميتا على مساحات واسعة، تؤكد وقوع العطش. في حينه كتبت مقالا شهيرا عنها في جريدة الوطن.

n في هذه الزيارة الثانية، الجمعة (15 /12 /1442 - 25 /6 /2021). كانت بريّة من قريتي إلى بيشة مباشرة. كالعادة استعنت بـ(المرشد جوجل)، لرسم الطريق نحوها. حدد المسافة والوقت اللازم للوصول. انطلقت صباحا، وقد تزودت ببعض وقود الطاقة، منها حبات تمر بيشة الجاف (قسبة). وقدح قهوة سمراء (إثيوبية) لتذكرني بتحديات سد النهضة. وقد وضعت عنه كتابا بعنوان: (سد النهضة شرارة العطش والجفاف.. فلسفة الصراع بين الحياة والموت على مياه نهر النيل). كنت أحمل شرارة هذا العنوان في عقلي مع بقية أفكاري وتطلعاتي.

n لم تغب عناوين كتبي الأخرى وما تحمل. جميعها قضية واحدة، الماء قضيتي الكبرى. حمّلت حياتي همّ الماء، تفكيرا ومعايشة وهدفا وكفاحا حتى في ساحات الهدوء والأكل والشراب. فاستمرت قضيتي متقدة خلال العقود الماضية، بل حوّلت نفسي إلى بيت ماء يستضيف الأفكار لصالح مياه الأجيال القادمة. كنتم جزءا من ضيوف هذا البيت، في ظل تجاهل وغياب أصحاب الشأن والقرار عن زيارته.

n انطلقت بقيادة (المرشد جوجل) لقراءة البيئة، وصيد ملامح تاريخ المياه. الملاحظة سلاحي، والتحليل والاستنتاج ثمرة تعب الرحلة. شرقا من مفرق قرية (الحُمَيْد) نحو سد (الجنابين). يا لعجائب الصدف، طريقي ستكون بين سدين، سد وادي بيشة في عسير، وسد وادي الجنابين في الباحة. كان وادي (الجنابين) بتفرعاته من حمى قبيلتي وممتلكاتها، عندما كانت دولة في زمن التشرذم والجهل والمرض والفقر.

n تعديت موقع سد الجنابين. محاطا بالجبال السمر. بنهايات مدببة كأنها الرماح. تحتضن منخفضات حول قواعدها نسميها (الأودية). كل قطرة تسيل على سفوح هذه الجبال تتدحرج نحو هذه الأودية. كنتيجة تكثر النباتات في بطون هذه الأودية. يغذي بعضها البعض متجها شرقا نحو بيشة وغيرها من المواقع.

n كان تركيزي يتعاظم على هذه الأودية. تعجبت من كثرتها وتنوعها، وقبل أن أصل سد وادي الجنابين كنت أرقب شجر العرعر ميتا على سفوح الجبال، واقفا وكأنه مصلوب للعبرة، لكن لا معتبر ولا مهتم. وقد كتبت عنه خلال الأعوام الماضية بشكل مستفيض. وأخيرا وبكل فخر وضعت كتابا بعنوان: (كارثة موت شجر العرعر وتأثيرها على مستقبل المياه الجوفية في المملكة العربية السعودية). سيكون في المكتبات قريبا بعون الله.

n غاب شجر العرعر. وبدأت مساحات أخرى من أنواع أخرى من الأشجار، هذا يعني أن البيئة بدأت تتغير مع تقدمي في السير شرقا، وكذلك المناخ. بدأت درجات الحرارة في الارتفاع. كنت مستمتعا حتى هذه اللحظة بمشاهد البيئة. وكانت ترافقني أهازيج شعبية، تحملني إلى الماضي وأنا أحملها إلى المستقبل. ويستمر الحديث بعنوان آخر.

@DrAlghamdiMH