مصطفى المهدي

المنظمات ونقصد هنا المؤسسات، الكيانات سواءً في القطاع العام أو الخاص أو الثالث هي كائنات حية وتستمد حياتها وحيويتها ورشاقتها عبر أداء أصحاب المصلحة، الذين يمثلون دورتها الدموية بكل محتوياتها من قلب وجهاز تنفسي وأوعية دموية وعنصر الدم.

وبعيدا عن الخوض في تحليل أصحاب المصلحة -Stakeholders- وتصنيفهم كأصحاب مصلحة رئيسيين أو ثانويين أو داخليين أو خارجيين، تبقى المسافة المثالية بينهم وكفاءة التواصل بينهم هو ما يشكل نبض المنظمة ويمكنها من الركض سريعاً عند الحاجة أو تغيير نمط السير وسرعته حسب المعطيات والتوقعات المستقبلية ومن ثم البقاء في الشكل المثالي -من حيث الموارد البشرية والهيكلة والأنظمة والأدوات والإستراتيجية- وجميعها يمثل مؤشر الكتلة للمنظمة، وهو يعبر عن الوزن المثالي للمنظمة.

ومثل أي كائن حي يملك دورة دموية، يمكن أن تصاب المنظمة بأعراض رئيسية أو جانبية أو حتى الأمراض المزمنة إن لم تتمكن من العمل مبكرا على توظيف مبدأ الوقاية خير من العلاج لعناصر دورتها الدموية. ويبقى التحدي في تحديد الأدوار المختلفة لمكونات الدورة الدموية ومدى وعي وتوافق أصحاب المصلحة على تلك الأدوار.

ولتوضيح الفكرة أكثر، لعلنا أن نطرح أسئلة مفتوحة للجميع لمناقشة مَنْ يمثل قلب المنظمة، وما هي مكونات جهازها التنفسي، وما هي أوعويتها الدموية؟ وما هو عنصر الدم وتركيبته الكيميائية؟

ولكن من خلال هذه المساحة، أود أن أركز على أهمية تعزيز الاهتمام بالموارد البشرية -وهم الثروة المتجددة التي لا تنضب- وأخص هنا الواعدين والمواهب من الموظفين الجدد، الذين هم بحاجة لاهتمام ورعاية وتوجيه من اليوم الأول لالتحاقهم بالمنظمة كأصحاب مصلحة يمثلون مستقبل المنظمة ومؤشر حيويتها المستقبلية.

كثيرا ما نتحدث عن التسرب في مراحل التعليم -ويعرف بأنه «الانقطاع الدائم للطالب عن مواصلة التعليم وابتعاده وتركه للمؤسسة التعليمية، التى ينتمى لها»، وبالرغم من خسائره الكبيرة على المستوى الشخصي والأسري والمجتمعي والوطني وعلى الاقتصاد بصورة عامة وهو تحدٍ يدركه المختصون في التربية والتعليم، ولهم باع واسع في أبحاثه وطرق علاجه ولعل الخسارة الكبرى في تسرب المواهب والواعدين من الطلاب لظروف متعددة منها ما هو مرتبط بالإمكانات الأسرية وغيرها من ظروف محيطة.

ولكن ماذا بعد التعليم والوصول والدخول لسوق العمل؟ هل يوجد تسرب للمواهب والواعدين بعد التحاقهم بسوق العمل؟ هل من مؤشرات على وجود تسرب للمواهب والواعدين في داخل المنظمة لا يدركه بقية أصحاب المصلحة؟

لعل الجانب الإيجابي في التسرب بعد دخول سوق العمل يكمن في وجود ممكنات تحفز انتقال المواهب والواعدين بين المنظمات المختلفة بحثا عن بيئة العمل الطموحة بتحدياتها وبرامج التطوير المتقدمة والفرص المستقبلية للمشاركة والتأثير في صناعة مستقبل المنظمة. وهذا يسهم كثيرا في تطور سوق العمل وخلق فرص ومنتجات جديدة وفوق ذلك رفع معدلات الاحترافية في السوق.

وعلى الجانب الآخر، يبقى التسرب الداخلي للمواهب والواعدين تحدياً كبيراً بالرغم من وجود مؤشرات مثل إدماج الموظف Employee Engagement وهو الذي يمكن من خلاله قياس مستوى حماس الموظف والتزامه تجاه وظيفته والمنظمة التي يعمل بها، نجد أن تلك من المؤشرات السالفة Lagging Indicators ولا تساعد على استشراف المستقبل، خصوصا عند الحديث عن المواهب والواعدين.

وبما أن الوقاية خير من العلاج، نجد أن المؤشرات الرائدة Leading Indicators، التي تعكس الالتزام الحالي بإدماج الموظفين، خصوصا المواهب والواعدين من خلال برامج نوعية تتم متابعتها من أصحاب المصلحة الآخرين في المنظمة هو خير دليل على الجدية في معالجة وتحجيم التسرب الداخلي للمواهب والواعدين. ومن تلك المؤشرات وجود برنامج لرعاية المواهب والواعدين من الموظفين يبدأ منذ اللحظة، التي أصبحوا فيها من أصحاب المصلحة في المنظمة. ومن المؤشرات الرائدة، التزام القياديين بتبني تلك البرامج وتطويرها ودعمها ومتابعة تنفيذها عبر إجراءات دورية تمكنهم من الالتقاء مع المواهب والواعدين، والتأكد من فعالية تلك البرامج ودور القادة والرؤساء المباشرين والموجهين في تحقيق أهداف خطط التطوير الفردية لكل واعد.

وكما نتحدث عن الرواد كحقيقة وليست «سالفة» تروى لتمضية الوقت أو صنع العناوين البراقة يجب علينا كأصحاب مصلحة العمل بكل عزم على تعزيز برامجنا الداخلية لتطوير المواهب والواعدين في المنظمات، والحد من تسربهم الداخلي في المنظمة وتخليصهم من التيه حتى لا يكونوا وزنا زائدا وخسارة مضاعفة وفقدانا لرائد من رواد المستقبل.

التحدي القيادي للرئيس هو القدرة على تحويل الواعدين والمواهب إلى رواد لتبقى المنظمة في أعلى درجات اللياقة من خلال دورة دموية سليمة ومتعافية على الدوام.

@MustafaAlmahdi