محمد الحرز

درج التقليد في المسارات المتعددة للعلوم المعرفية والفنية على أن يكون التأثير المتبادل فيما بينها هو السائد والطبيعي، وأن حصيلة ما ينتج من نظريات في علوم الطاقة والفيزياء والمجال العسكري والاقتصادي يتم تطبيقها بفعل التأثير المتبادل وبطريقة أو بأخرى، في مجالات الاجتماع والفن والأدب والفكر والثقافة بعمومها.

من هذا المنظور فالفن السابع أو السينما لا تحيد عن هذا المسار، فمنذ تأسيس السينما في أواخر القرن التاسع عشر، سعت إلى أن تستمد من السير الذاتية والوقائع التاريخية المهمة وتاريخ الأمم وتاريخ النخب والعامة، مواضيعها التي تشد الجمهور كفرجة وتنجذب إليه، سواء في مرحلة السينما الصامتة أو مرحلة السينما الناطقة، بالخصوص إذا ما عرفنا أن فن السيرة الذاتية في الأدب الغربي قد حقق ازدهارا ملحوظا وإقبالا كبيرا على كتابته منذ القرن الثامن عشر، وعرفنا أيضا أن الأحداث التاريخية الكبرى قد تحققت في أحداث الحرب العالمية الأولى والثانية، فالمادة أصبحت متوافرة للاستثمار، وبالتالي تحويلها من المجال المكتوب إلى المجال المرئي، مما أتاح في المجال ولأول مرة أمام الجمهور رؤية الواقع التاريخي بصريا ومعالجا بتقنية الحكي والسرد ومعتمدا على الأرشيف والوثائق.

وعليه أصبح التاريخ صورة تروى وتقول ما لم تستطع الكلمات قوله في الوثائق، وتؤول ما لم يستطع تأويله المؤرخون المحترفون.

والسؤال هنا، إذا كانت السينما استلهمت من الذاكرة التاريخية، وطورت من قضاياها وعالجت أحداثها، ونبشت أرشيفها وتلاعبت بصريا بسردها وأزمنتها، فما هو موقف المؤرخ من هذا الاستلهام أو التوظيف؟ وهل بالمقابل قدمت السينما ما يفيد عمل المؤرخ؟

تاريخيا وفي وقت مبكر لم يلتفت المؤرخون إلى أهمية ما تقوم به السينما من عمل في مجال الكتابة التاريخية، وما تقدمه للجمهور من آفاق ومعان جديدة جمالية وتأويلية للحدث نفسه، والسبب يعود في الأغلب إلى أن المؤرخ كان يرى في الوثيقة المكتوبة قدسية كبيرة لا يمكن انتهاكها من خلال توظيفها في مجال آخر. وهناك سبب آخر يعود إلى طبيعة التقنيات التي تستخدمها السينما من مونتاج وتلاعب بالزمن السردي للحدث بما يخدم قناعات المخرج جماليا وفنيا، وبما يخدم أيضا في مستوى آخر الاستثمار السياسي والاقتصادي أيضا.

جميع هذه الأسباب جعلت المؤرخ يجفل من الاقتراب من السينما باعتبارها وثيقة تاريخية يمكن الاعتماد عليها تأريخيا.

يضاف إلى ذلك أن ذهنية المؤرخ لم تفرق بين دور كاتب السيناريو من جهة ودور المخرج من جهة أخرى في إخراج المادة المصورة، مما أدى إلى اعتبار ما ينتج سينمائيا مشكوك المصدر والهوية.

لكن لاحقا مع التطور المعرفي والثقافي سرعان ما تغيرت نظرتهم إلى السينما باعتبارها وثيقة تاريخية مهمة، فقد أصبحت كما يقول المخرج السينمائي الفرنسي جون كوكتو «هي كتابة على الشاشة نسجل من خلالها حركة التاريخ والمجتمع».

بل أصبحت أداة مهمة توثيقية للأحداث السياسية الكبرى التي يمكن توظيفها بالطريقة التي تتكرس من خلالها وجهة نظر معينة مثلما حدث في تكريس وجهة النظر الأمريكية من خلال إنتاج أفلام وثائقية ودرامية حول الحرب العالمية الثانية أو حول النازية والفاشية، حيث كان الخط العام من هذه الوجهة هو إبراز القوة الأمريكية وقدراتها العسكرية، وتحويل أبطالها في الحرب إلى رموز وأساطير لا تقاوم. بينما السينما الألمانية قدمت في الكثير من مقارباتها حول النازية أو شخصية هتلر على السبيل وجهة نظر تتسم بالابتعاد عن الدعائية المجانية، أو تكريس الانتصار بالقوة العسكرية للحلفاء، بل تناولته بالعمق الإنساني مثلما هو في فيلم «السقوط» عام 2004 الذي يروي الأيام الأخيرة لهتلر، ويتتبع الحالة النفسية للرجال المقربين من هتلر، ويحلل شخصياتهم وإيمانهم العميق بالنازية. والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى سواء كان ذلك في السينما الألمانية أو السينما الإيطالية.

لذلك يمكن أن نقول: السينما تقدم ثراء معرفيا كبيرا في إنتاج المعنى المتعدد للأحداث التاريخية، والشخصيات المهمة تاريخيا، بحيث لا يظل الحدث محصورا في وجهة نظر المؤرخ فقط كما هو في التاريخ الكلاسيكي.

⁦@MohammedAlHerz