لا أحد تغيب عن ذهنه شخصيات استثنائية عاصرها في مختلف تطورات حياته، سواء في المدينة التي عاش بها أو الحي الذي سكنه أو حتى المنزل الذي تربى فيه، وبالخصوص في مرحلتي الطفولة والشباب.
هذه الشخصيات بكل بساطة تتميز بأنها غير تقليدية في حياتها إلى درجة أنها في صفاتها وسلوكها الاجتماعي وتصرفاتها الذاتية تكون حديث الناس والمجالس، وتُروى حولها القصص والحكايات في جانب، بينما في جانبها الآخر تصبح مدار التندر والتنكيت أيضًا. والحقيقة أنه لا يخلو أي مجتمع منهم، فهؤلاء يُطلق عليهم البعض ممن عاصرهم أو صاحبهم بالمجانين، أو كما هو في لغة التداول الرمزي سبايك، أو يطلقون عليهم غريبي الأطوار أو انطوائيين.
وهكذا يتم حصرهم في صفات تلبّي عند معاصريهم الحاجة إلى السيطرة عليهم من خلال اللغة، وفهم ما يقومون به من تصرّفات خارجة عن السياق والمألوف.
والغريب في الأمر أن مثل هذه الشخصيات تحفر اسمها في الذاكرة الاجتماعية دون عناء أو قصد، بينما الكثير من مجايليهم يذوب ذِكرهم في غياهب النسيان، وبالكاد تجد اسمًا أو اثنين يقرنان بهؤلاء من الشخصيات باعتبارهما جزءًا لا يتجزأ من سيرة هؤلاء. لذلك حضورهم في الذاكرة الاجتماعية داخل أي مجتمع يمثل بكل بساطة الرافعة التي تجعل هذه الذاكرة فاعلة وذات بُعد خصوصي، وحاضرة كموروث شعبي قصصي بجانب الكثير من الموروثات الأخرى.
وعليه ترى الكثير من المبدعين الروائيين والشعراء الذين ينتمون إلى مجتمع هؤلاء الشخصيات أو حتى خارجه يستلهمون من حياة هؤلاء مادة للكتابة تُثري مخيّلتهم، وتعطي انطباعًا عامًا بخصوصية ما يكتبون.
ويمكن أن ندلل على الكثير من الكتاب المبدعين في مجتمعاتنا العربية كمصر والشام والخليج الذين تأثروا في فترة من حياتهم بشخصيات عايشوها ثم استلهموا منها ما يُشكّل عصب كتابتهم.
لكني لن أركز على هذا الجانب رغم أهميته في سياق موضوعنا؛ لأن ما يعنيني الآن من هذه المسألة هو التركيز على سرد مقتطفات من سيرة أحد هؤلاء الشخصيات في وسط مجتمع، كالمجتمع الأحسائي الذي عشتُ فيه وتربيت، والذي يمتلك الكثير من الشخصيات (الكاركتر) في تاريخه وموروثه القريب، التي تشكّل مادة خصبة للكتابة القصصية الروائية والشعرية والسينمائية.
من أمثلة ذلك - حسبما أتذكّر- شخص كان من أبناء حارتنا في حي الكوت بالهفوف، في فترة السبعينيات الميلادية، يُطلقون عليه صفة الزّكَرتي، وهي صفة كانت تُطلق على كل شخص، وما أكثرهم في تلك الفترة، يعتني بمظهره الخارجي بطريقة لافتة للنظر، يُضاف إلى ذلك ما يشتهر به من صفات الشهامة والفزعة وقضاء الحاجيات، بالخصوص بين أبناء حارته.
ما أتذكّره من صفات هذا الشخص، أنه كان إذا عبَر أمامنا في براحة الحارة يتهادى في مشيته، وخطواته تكون مدروسة، كأنه يُجبرنا على أن نتفرس ملامحه، بحيث نحن الأطفال المنهمكين في اللعب، نتوقف ونفسح له المجال للعبور، دون أن نعيره أدنى اعتبار لمروره.
وفي إحدى المرات من المساءات الشتوية رأيته على مدخل الحارة، لصق الجدار الطيني، واضعًا إحدى أذنيه، وكان يهز رأسه بين فينة وأخرى، وكأنه يخاطب شخصًا، وحينما مررتُ بجانبه، وكنت مرعوبًا، قال لي: اذهب إلى بيتك بسرعة، سينزل المطر بعد قليل وسيُغرق الحارة كلها، هذا ما حدَّثني به الجدار.
ما زالت كلماته ترن في ذاكرتي للآن، وإشارة يديه إلى الجدار، وانفتاح عينيه وانغلاقها في نفس الوقت ما زالت تحفر عميقًا في مخيّلتي.
مثل هذه المواقف التي لا يمكن أن يحللها عقل طفل صغير، ويعطيها المعنى واللفظ المناسبَين سوى أنها تظل مؤرقة ولا تهدأ إلا أن تتحوَّل إلى قصص وحكايات تشد من نسيج المجتمع وتعطيه هويته من العمق.
@MohammedAlHerz
هذه الشخصيات بكل بساطة تتميز بأنها غير تقليدية في حياتها إلى درجة أنها في صفاتها وسلوكها الاجتماعي وتصرفاتها الذاتية تكون حديث الناس والمجالس، وتُروى حولها القصص والحكايات في جانب، بينما في جانبها الآخر تصبح مدار التندر والتنكيت أيضًا. والحقيقة أنه لا يخلو أي مجتمع منهم، فهؤلاء يُطلق عليهم البعض ممن عاصرهم أو صاحبهم بالمجانين، أو كما هو في لغة التداول الرمزي سبايك، أو يطلقون عليهم غريبي الأطوار أو انطوائيين.
وهكذا يتم حصرهم في صفات تلبّي عند معاصريهم الحاجة إلى السيطرة عليهم من خلال اللغة، وفهم ما يقومون به من تصرّفات خارجة عن السياق والمألوف.
والغريب في الأمر أن مثل هذه الشخصيات تحفر اسمها في الذاكرة الاجتماعية دون عناء أو قصد، بينما الكثير من مجايليهم يذوب ذِكرهم في غياهب النسيان، وبالكاد تجد اسمًا أو اثنين يقرنان بهؤلاء من الشخصيات باعتبارهما جزءًا لا يتجزأ من سيرة هؤلاء. لذلك حضورهم في الذاكرة الاجتماعية داخل أي مجتمع يمثل بكل بساطة الرافعة التي تجعل هذه الذاكرة فاعلة وذات بُعد خصوصي، وحاضرة كموروث شعبي قصصي بجانب الكثير من الموروثات الأخرى.
وعليه ترى الكثير من المبدعين الروائيين والشعراء الذين ينتمون إلى مجتمع هؤلاء الشخصيات أو حتى خارجه يستلهمون من حياة هؤلاء مادة للكتابة تُثري مخيّلتهم، وتعطي انطباعًا عامًا بخصوصية ما يكتبون.
ويمكن أن ندلل على الكثير من الكتاب المبدعين في مجتمعاتنا العربية كمصر والشام والخليج الذين تأثروا في فترة من حياتهم بشخصيات عايشوها ثم استلهموا منها ما يُشكّل عصب كتابتهم.
لكني لن أركز على هذا الجانب رغم أهميته في سياق موضوعنا؛ لأن ما يعنيني الآن من هذه المسألة هو التركيز على سرد مقتطفات من سيرة أحد هؤلاء الشخصيات في وسط مجتمع، كالمجتمع الأحسائي الذي عشتُ فيه وتربيت، والذي يمتلك الكثير من الشخصيات (الكاركتر) في تاريخه وموروثه القريب، التي تشكّل مادة خصبة للكتابة القصصية الروائية والشعرية والسينمائية.
من أمثلة ذلك - حسبما أتذكّر- شخص كان من أبناء حارتنا في حي الكوت بالهفوف، في فترة السبعينيات الميلادية، يُطلقون عليه صفة الزّكَرتي، وهي صفة كانت تُطلق على كل شخص، وما أكثرهم في تلك الفترة، يعتني بمظهره الخارجي بطريقة لافتة للنظر، يُضاف إلى ذلك ما يشتهر به من صفات الشهامة والفزعة وقضاء الحاجيات، بالخصوص بين أبناء حارته.
ما أتذكّره من صفات هذا الشخص، أنه كان إذا عبَر أمامنا في براحة الحارة يتهادى في مشيته، وخطواته تكون مدروسة، كأنه يُجبرنا على أن نتفرس ملامحه، بحيث نحن الأطفال المنهمكين في اللعب، نتوقف ونفسح له المجال للعبور، دون أن نعيره أدنى اعتبار لمروره.
وفي إحدى المرات من المساءات الشتوية رأيته على مدخل الحارة، لصق الجدار الطيني، واضعًا إحدى أذنيه، وكان يهز رأسه بين فينة وأخرى، وكأنه يخاطب شخصًا، وحينما مررتُ بجانبه، وكنت مرعوبًا، قال لي: اذهب إلى بيتك بسرعة، سينزل المطر بعد قليل وسيُغرق الحارة كلها، هذا ما حدَّثني به الجدار.
ما زالت كلماته ترن في ذاكرتي للآن، وإشارة يديه إلى الجدار، وانفتاح عينيه وانغلاقها في نفس الوقت ما زالت تحفر عميقًا في مخيّلتي.
مثل هذه المواقف التي لا يمكن أن يحللها عقل طفل صغير، ويعطيها المعنى واللفظ المناسبَين سوى أنها تظل مؤرقة ولا تهدأ إلا أن تتحوَّل إلى قصص وحكايات تشد من نسيج المجتمع وتعطيه هويته من العمق.
@MohammedAlHerz