محمد الحرز

من المتعارف عليه في العادات والتقاليد الثقافية للمجتمعات أن كل جيل ينقل خبراته ومعارفه للأجيال اللاحقة مهما كانت هذه الخبرات ونوعيتها، أو في أي مجال من مجالات الحياة المختلفة سواء تم الانتقال عن طريق الاحتكاك أو التعلم المباشر أو التأثير غير المباشر، أو عن طريق التعليم النظامي وغيره من الأساليب الأخرى، التي من خلالها تنتقل المعرفة بفروعها المختلفة والثقافة بمجالاتها الحياتية المتنوعة مصبوغة بسلوك الشخصيات الناقلة لها، وهكذا جرت الأمور على سبيل المثال في تاريخنا الإسلامي. فالباحث عن المعرفة كان ينتقل من بلد إلى آخر حتى يصل للعالم، الذي يسعى للوصول إليه، ويلازم مجلسه ويتتلمذ على يديه، يحدث هذا في كل المجالات: في علوم الدين والتاريخ والأدب والسياسة والفلسفة، حتى برزت ثنائية «الشيخ والمريد» في عالم التصوف باعتبارها أسطع مثال على النموذج الفعال في انتقال المعارف من جيل إلى آخر، حتى أصبح لهذا النموذج تقاليد عريقة وطقوس معروفة لا يحيد عنها طالب العلم ولا معلمه. ومَنْ يطلع على قصص تتناول هذا الجانب من التراث يقف على حقيقة قدسية العلم والعلماء ومكانتهم عند تلاميذهم.

بيد أن هذا المنزع في العلاقة بين المعلم وطالبه أو الشيخ ومريديه أو الكاتب والمتأثر به في الحياة المعاصرة اختفى تماما، واختفت معه كل التقاليد القائمة على هذه العلاقة كالنظر إلى العالم بوصفه قدوة في كل شيء بعد توقيره واحترامه وإنزاله منزلة العظماء.

لقد تركت الوسائط التقنية أثرها الكبير في الإجهاز على ما تبقى من هذه العلاقة، التي بدأت تترنح عندما رأينا المجتمعات على وقع تطورها الصناعي والعلمي والمعرفي منذ بدايات القرن التاسع عشر قد دخلت في طور آخر من الحياة لا تمت إلى سابقاتها بشيء.

لذلك ظهرت جراء ذلك ظواهر عديدة من أهمها انحسار شخصية المعلم بوصفه القدوة الكبيرة وصاحب الكاريزما والرمز المؤثر عن الوسط المعرفي والثقافي، والاستعاضة عنه بمحركات البحث مثل «جوجل» و «اليوتيوب» وغيرهما، مما أوجد حالة من الفراغ أو لنقل: الضياع في انتقال المعلومة من وسيط إلى آخر، من شخص سابق لا ينقل المعلومة إلا في سياقات من الخبرات التربوية والثقافية والاجتماعية والحياتية إلى شخص لاحق لا يتلقاها إلا وهي مشروطة بهذه السياقات، بينما في حالة محركات البحث تنتفي هذه الشروط، فهذا الجيل ليس أمامه سوى المعلومة منزوعة من الحضور الإنساني لحظة تلقيها أو استقبالها.

أيضا يتبع هذا الانحسار غياب التقاليد الراسخة في توقير العلماء وكبار المعلمين، التي هي من صميم أخلاقيات تلك العلاقة. وهذا لا يعني أن هذا الجيل أضاع البوصلة إلى هذه الأخلاقيات. لكن ثمة عوامل عديدة أفسحت في المجال كي نشير إلى مسألة الغياب. فالعالم الافتراضي أحكم قبضته على كل صغيرة وكبيرة في حياة هذا الجيل (وعندما أقول هذا الجيل لا يعني أنه لا ينسحب على مَنْ سبقهم من جيلين على الأقل. لكن هؤلاء أخف وطأة في التأثر بهذا العالم لأسباب ليس هنا محل ذكرها ) بدءا من أكله وشربه إلى ملبسه وأمكنته التي يعيش فيها، وذوقه ورغباته وعلاقاته وحبه وحزنه.. ألخ. وكأن الشعور الإنساني ووجدانه الداخلي أصبح مرآة نفسه، يتوهم أنه يخاطب الآخرين ويحاكيهم. لكنه بالنهاية لا يخاطب سوى نفسه عبر هذا العالم أو هذا الفضاء.

@MohammedAlHerz