صدرت رواية «الباتِرا» بالدمام عام 2018، للروائي السوداني د. جمال الدين علي، وفاز بجائزة الطيب صالح التقديرية للإبداع الروائي عام 2017، أي أنه، كما يظهر من هذا التاريخ، فقد طُبعت ونشرت بعد إعلان فوزها بالجائزة بعام كامل.
وتقع الرواية في حدود 312 صفحة من القطع المتوسط، وهي تنتمي من حيث التصنيف إلى حقل «الرواية التاريخية» أو «الخيالية» إن صح التعبير، التي تجعل من التاريخ القديم مرتكزًا تدور في فلكه جميع أحداثها وتفاصيلها، وتستمد من جذوره أفكارها، ومن رموزه شخصياتها، ومن أرشيفه ذاكرتها الموغلة في ثنايا التاريخ، والحضارات القديمة، كالحضارة «الكوشية» التي تُعد واحدة من أقدم حضارات بلاد «النوبة» منذ آلاف السنين.
هذا فيما يتعلق بالإطار العام للفضاء الروائي، أما فيما يتعلق بالبناء السردي، فقد انتهج الكاتب خلاله الأسلوب القصصي، الذي يراوح ما بين الحدث الراهن «زمن الرواية» وأحداث سابقة، ترتبط كلها ببعضها حسب ما يمليه السياق العام للحدث الرئيس، والشخصية الرئيسة التي تؤدي دورًا فعالًا وواضحًا في تسلسله وتوجيهه، وتصاعد وتيرته، منذ بداية القصة حتى نهايتها.
وهذه الشخصية «المحورية» ليست إلا شخصية «الباتِرا» العجائبية التي انفردت عن غيرها بما اتسمت به من مفارقات عجيبة وغريبة خارقة للعادة، أبرزها إتقان هذه الشخصية لغة الطير، والتنبؤ أو التكهن أحيانًا بما سيقع من أحداث مستقبلية أو مصيرية، خارجة عن إرادة البشر.
فـ«الباتِرا» إذن في خِلْقَتِه الحسية أو المادية هو روح «حيوان» حلت في بدن «إنسان» نتيجة ظروف بالغة التعقيد، ولعل هذه الصفة الشاذة عن المألوف، والتي جمعت بين نقيضين «الحيوان والإنسان» هي ما جعلت من «الباتِرا» شخصية مركبة معقدة، ومتأرجحة أيضًا بين عالمين: عالم الحقيقة، وعالم الخيال أو «الفانتازيا».
ولذلك كان الكاتب ذكيًا في رسمه لهذه الشخصية المركبة، على هذا النحو الذي استثمره فنيًا، واستفاد منه كثيرًا في استدراج القارئ نحو عوالم مليئة بالدهشة والإثارة والعجب والغرابة، دون أن يحتكم إلى واقع يُلزمه بالحقيقة وعدم الحياد عنها. وكان من حسنات هذا الأسلوب أنه منح الكاتب نفسًا روائيًا طويلاً استطاع خلاله أن يحلق بقلمه وخياله بعيدًا، متجاوزًا حدود الواقع وصرامته التي تحد من ماهية السرد وزمانه ومكانه، وإلا لما استطاع أن يكتب لنا رواية بهذا الحجم الكبير، لو كان ملتزمًا بالواقع الفعلي، ولم يحد عنه قيد أنملة.
وبالطبع فإن سر ذلك يكمن في شخصية «الباتِرا» الفضفاضة، القابلة للتشكل كعجينة لدنة كانت رهن قلم الكاتب فاستثمرها كثيرًا، وتفنن في تشكيلها في أكثر من اتجاه وأكثر من صورة، حتى كانت عاملًا رئيسًا في تفسير كثير مما تحدثت عنه الرواية، وخاصة فيما يخص تلك الأحداث التاريخية القديمة السابقة، وربطها بأحداث لاحقة، لوجود علاقة بين الحدثين؛ السابق واللاحق منهما، بحيث كانت «الباتِرا» هنا بمثابة شاهد عيان على تلك الحقب التاريخية السحيقة من حياة أجداده القدامى، بعد أن طُمِست كثير من معالمها، ولم يعد أحد من المعاصرين يعرف عنها شيئًا، فجاء «الباتِرا» ليخبر الأحفاد بماضي الأجداد، حتى بدا لنا كأنه مفسر لأحداث التاريخ وبعض حلقاته المفقودة من سلسلته الطويلة، ومحرض على الاهتمام بإرث الأسلاف، وضرورة المحافظة عليه من الضياع، في ظل ظهور الحياة المادية الحديثة، وهو نوع من الاعتزاز بهوية هذا الشعب العريق، وبأرضه، وما قام عليها من حضارات بشرية عظيمة، ما زالت آثارها باقية حتى الآن.
أما فيما يخص «اللغة» فقد كان الكاتب حريصًا على التزامه بالفصحى ومفرداتها وتراكيبها، وببعض تعابيرها الحديثة السلسة المفهومة للجميع، وخاصة في «السرد» باستثناء ما جاء في بعض الحوارات من اللهجة العامية السودانية، بالرغم من قلة استخدامه نسبيًا مثل هذه الحوارات التي يظهر من استخدامها أن الكاتب لم يجد ما يقابلها في الفصحى أو ينوب عنها، فأوردها كما هي بين قوسين بالعامية.
وربما أن الكاتب أيضًا أراد أن يوظفها توظيفًا سليمًا في تكوين النسيج السردي ككل، وكأنها نوع من الموروث الشعبي الذي يربط حاضر الشعب بماضيه، أو ربما أنها، باختصار، رسالة غير مباشرة من الكاتب للقارئ، كي يتمكن من التفريق بين تاريخ الحدث الماضي وشخصياته، وبين الحاضر الراهن وشخصياته في زمن الرواية.
◆ روائي وناقد
وتقع الرواية في حدود 312 صفحة من القطع المتوسط، وهي تنتمي من حيث التصنيف إلى حقل «الرواية التاريخية» أو «الخيالية» إن صح التعبير، التي تجعل من التاريخ القديم مرتكزًا تدور في فلكه جميع أحداثها وتفاصيلها، وتستمد من جذوره أفكارها، ومن رموزه شخصياتها، ومن أرشيفه ذاكرتها الموغلة في ثنايا التاريخ، والحضارات القديمة، كالحضارة «الكوشية» التي تُعد واحدة من أقدم حضارات بلاد «النوبة» منذ آلاف السنين.
هذا فيما يتعلق بالإطار العام للفضاء الروائي، أما فيما يتعلق بالبناء السردي، فقد انتهج الكاتب خلاله الأسلوب القصصي، الذي يراوح ما بين الحدث الراهن «زمن الرواية» وأحداث سابقة، ترتبط كلها ببعضها حسب ما يمليه السياق العام للحدث الرئيس، والشخصية الرئيسة التي تؤدي دورًا فعالًا وواضحًا في تسلسله وتوجيهه، وتصاعد وتيرته، منذ بداية القصة حتى نهايتها.
وهذه الشخصية «المحورية» ليست إلا شخصية «الباتِرا» العجائبية التي انفردت عن غيرها بما اتسمت به من مفارقات عجيبة وغريبة خارقة للعادة، أبرزها إتقان هذه الشخصية لغة الطير، والتنبؤ أو التكهن أحيانًا بما سيقع من أحداث مستقبلية أو مصيرية، خارجة عن إرادة البشر.
فـ«الباتِرا» إذن في خِلْقَتِه الحسية أو المادية هو روح «حيوان» حلت في بدن «إنسان» نتيجة ظروف بالغة التعقيد، ولعل هذه الصفة الشاذة عن المألوف، والتي جمعت بين نقيضين «الحيوان والإنسان» هي ما جعلت من «الباتِرا» شخصية مركبة معقدة، ومتأرجحة أيضًا بين عالمين: عالم الحقيقة، وعالم الخيال أو «الفانتازيا».
ولذلك كان الكاتب ذكيًا في رسمه لهذه الشخصية المركبة، على هذا النحو الذي استثمره فنيًا، واستفاد منه كثيرًا في استدراج القارئ نحو عوالم مليئة بالدهشة والإثارة والعجب والغرابة، دون أن يحتكم إلى واقع يُلزمه بالحقيقة وعدم الحياد عنها. وكان من حسنات هذا الأسلوب أنه منح الكاتب نفسًا روائيًا طويلاً استطاع خلاله أن يحلق بقلمه وخياله بعيدًا، متجاوزًا حدود الواقع وصرامته التي تحد من ماهية السرد وزمانه ومكانه، وإلا لما استطاع أن يكتب لنا رواية بهذا الحجم الكبير، لو كان ملتزمًا بالواقع الفعلي، ولم يحد عنه قيد أنملة.
وبالطبع فإن سر ذلك يكمن في شخصية «الباتِرا» الفضفاضة، القابلة للتشكل كعجينة لدنة كانت رهن قلم الكاتب فاستثمرها كثيرًا، وتفنن في تشكيلها في أكثر من اتجاه وأكثر من صورة، حتى كانت عاملًا رئيسًا في تفسير كثير مما تحدثت عنه الرواية، وخاصة فيما يخص تلك الأحداث التاريخية القديمة السابقة، وربطها بأحداث لاحقة، لوجود علاقة بين الحدثين؛ السابق واللاحق منهما، بحيث كانت «الباتِرا» هنا بمثابة شاهد عيان على تلك الحقب التاريخية السحيقة من حياة أجداده القدامى، بعد أن طُمِست كثير من معالمها، ولم يعد أحد من المعاصرين يعرف عنها شيئًا، فجاء «الباتِرا» ليخبر الأحفاد بماضي الأجداد، حتى بدا لنا كأنه مفسر لأحداث التاريخ وبعض حلقاته المفقودة من سلسلته الطويلة، ومحرض على الاهتمام بإرث الأسلاف، وضرورة المحافظة عليه من الضياع، في ظل ظهور الحياة المادية الحديثة، وهو نوع من الاعتزاز بهوية هذا الشعب العريق، وبأرضه، وما قام عليها من حضارات بشرية عظيمة، ما زالت آثارها باقية حتى الآن.
أما فيما يخص «اللغة» فقد كان الكاتب حريصًا على التزامه بالفصحى ومفرداتها وتراكيبها، وببعض تعابيرها الحديثة السلسة المفهومة للجميع، وخاصة في «السرد» باستثناء ما جاء في بعض الحوارات من اللهجة العامية السودانية، بالرغم من قلة استخدامه نسبيًا مثل هذه الحوارات التي يظهر من استخدامها أن الكاتب لم يجد ما يقابلها في الفصحى أو ينوب عنها، فأوردها كما هي بين قوسين بالعامية.
وربما أن الكاتب أيضًا أراد أن يوظفها توظيفًا سليمًا في تكوين النسيج السردي ككل، وكأنها نوع من الموروث الشعبي الذي يربط حاضر الشعب بماضيه، أو ربما أنها، باختصار، رسالة غير مباشرة من الكاتب للقارئ، كي يتمكن من التفريق بين تاريخ الحدث الماضي وشخصياته، وبين الحاضر الراهن وشخصياته في زمن الرواية.
◆ روائي وناقد