د. محمد حامد الغامدي

n السيول تكسب في حربها مع الإنسان. وكنتيجة كان الناس يتجنبون حتى النوم في بطون الأودية. فكيف وصلنا مرحلة بناء البيوت في بطون الأودية؟ حتى الطرق تم تأسيسها في مجاري السيول. أليس هذا تعديا على حقوق السيول التاريخية في مجاريها التقليدية؟ وهل قاد توسع أحياء بيشة أفقيا في بطن الوادي إلى توجيه السيول عبر مسار تم تحديده بالقلم والمسطرة مسبقا؟ في النهاية هل انتصر الإنسان بهذا السور الخرساني حولها وضمن سلامتها؟ الجواب واضح حاليا. لكن في عودة الأمطار إلى سابق عهدها في مناطق الشريط المطير، فسيكون الجواب مختلفا، حيث الهزيمة متوقعة.

n بعد أن تجاوزت جسر مدخل مدينة بيشة الطويل، وسور الحماية الخرساني الذي يشكل مصدا مائيا اصطناعيا في وجه السيول الهادرة العمياء، أعلن (المرشد جوجل) وصولي، وقد أنهكني التأمل، والتفكير، والتحليل، والاستنتاجات البيئية. فورا توقفت في أحد الشوارع، ورجعت للمرشد جوجل، ليأخذني مباشرة نحو سد بيشة، سد الملك فهد -رحمه الله.

n كتبت كثيرا عن السدود. كنت وما زلت ضد بنائها في مناطقنا الجافة. سد بيشة أحدها. نظريتي ضد بناء السدود يتعاظم شأنها بنفسي مع مرور الأيام. المؤشرات السلبية تؤكد وتعزز قناعتي العلمية. أيضا تتعمق ثقتي مع نتائج المؤشرات القائمة. وبسبب نظريتي هذه وضعت كتابا خاصا عن سد النهضة الإثيوبي، البعيد عن ديارنا والقريب بمشاكله وبيئته من بيئتنا العربية.

n يرون بناء السدود حلا، وأراه مشكلة ومعضلة، أصبحت لشخصي أحد مؤشرات التصحر الأكيدة. عندما أرى سدا في أي مكان، أقول: سيحل هنا العطش. وقد حل في بيشة وغيرها.

n السدود مركز لنشر العطش. في جزء من مشاكلها أنها تحول دون تغذية المياه الجوفية بالمياه المحبوسة في حوضها. هنا تذكرت الندوة العلمية عن بناء السدود في المملكة، عام (2004م)، في جامعة الملك عبدالعزيز، بمشاركة العديد من علماء المملكة، وكنت أحدهم. غابت عنه وزارتا الزراعة والمياه في حينه، رغم تلقيهما الدعوة بالمشاركة والحضور.

n في هذا الندوة استعرضت نظريتي ضد بناء السدود، وأيضا قدمت البديل. نلت تصفيق وإعجاب العلماء المشاركين. لكن حظينا جميعا بتجاهل الجهات الغائبة وغير المكترثة بما حذر منه علماء الوطن في ندوتهم تلك.

n أخيرا وصلت. ثم وقفت مجبرا أمام بوابة سد بيشة، وجدته على ارتفاع (1253) مترا عن سطح البحر. ماذا يعني هذا الفرق بين ارتفاع الموقعين، موقع قريتي حيث انطلقت من جبال السراة بارتفاع (2116) مترا، وارتفاع موقع بيشة؟ الفرق (863) مترا يشكل انحدارا نحو الشرق. له قراءته وتفسيره المائي، له أهميته ووظيفته المائية، له دلالته العلمية المائية. تأسس موقع بيشة على الماء ومن أجله.

n وجدت بوابة الدخول إلى السد موصدة، قرأت مشهد الإغلاق، تذكرت أطلال قريتي الحجرية، أدرت سيارتي راجعا، لكن توقفت فجأة لأستطلع موقعه على خارطة (جوجل)، وكان طوال الطريق يخبرني بأن وجهتي مغلقة، ورغم ذلك واصلت المسيرة نحو السد.

n كنت أسعى لمقابلة تاريخية شخصية وجها لوجه مع هذا السد الخرساني، لتأكيد نظريتي ضد بنائه ورفاقه في المناطق الجافة. سعيت لإثبات انتصاري في منازلة علم وحسم، ولألقي أيضا أمامه قصائد بيئية عن أكوام مخلفات أعجاز نخل خاوية ومنقعرة، تغطي العديد من المواقع، شاهدتها مع غيرها من مخلفات نعمة العصر. كنت سأنقل له مشاعري عن تشويه بصري يزيد من كآبة نتائج العطش والجفاف.

n فجأة ظهر أحدهم، أوقف سيارته بجانب سيارتي، استدرت برأسي نحوه، وقبل أن يبادر بالكلام سألته عن إمكانية دخولي لرؤية السد، كان جوابه صدمة أخرى تجرعتها بدون ماء، جواب أضفته إلى قائمة مؤشرات تصحر الاجتهادات.. ويستمر الحديث بعنوان آخر هو الثامن.

twitter@DrAlghamdiMH