د. محمد حامد الغامدي

n هذا ليس بعنوان فيلم خيال جامح، إنه عنوان لكتاب وصلني هدية من تأليف رجل عسكري، ولأني تربيت على أن العسكرية رجولة ومرجلة، أعطيته أهمية. خصصت له وقتا أطول، ليس لقراءته فقط، ولكن للتأمل والتفكير في حياة مؤلفه. ابن قرية، عاش طفولته بين الجبال السمر وأوديتها الخضراء، تحكمه تقاليد قروية صارمة، فأصبح (نوخذة) كما يقول أهل الخليج العربي، لكنه لا يبحث عن اللؤلؤ، هو نفسه لؤلؤة ثمينة، سمعت عنه قبل معرفته في بيت صديق مشترك بعد تقاعده، فأصبح من النماذج التي تشرفت بمعرفتها في حياتي.

n لكن لماذا خصصت لهذا الكتاب هذا المقال ومقالات أخرى قادمة؟ هناك أسباب تعددت أهدافها، في إحدى غاياتها تقديم نموذج للإنسان السعودي في مجال جديد ومختلف عما ألفت وعشت، أعرف أنه من أحفاد أمة حملت روحها على راحتها، في سبيل نشر رسالة سماوية إلى العالم أجمع. إنها الإنسانية تحولت إلى عطاء مستدام لإنسان هذا البلد المحفوظ بعون الله.

n خصصت وقتا أطول للتفكير بهذا الكتاب كعنوان في مكتبتي، لم أمسسه بسبب عنوانه الجامح، رأيته يمثل مكتبي في عنفوان حاله، كأنه بقايا عاصفة حرثته، وجعلته ركاما يعيش فوضى المظهر، رغم أنه أكثر تنظيما مما يعتقد البعض ويستنتج لأول وهلة. نعم.. مكتب منظم في قالب فوضى إبداع لا يحسن البعض قراءته، هكذا أعطي لنفسي الأعذار والتبريرات.

n قرأت كلمات الإهداء، فهالني ما كتب، فابتعدت عن الكتاب مسافات من الزمن، ثم رجعت إلى كلماته المعدودة، وتأملتها فزادت مساحة الأسئلة وتوسعت في طرح أهدافها. كتب بخط يده قائلا: [أهديك جزءا من حياتي وحياتك]. ذلكم كل ما كتب، وعندما يقتحم أحدهم حياتك بتلك العبارة، فهذا يعني أن معرفته عن حياتك تعادل ما يعرف عن حياته، كيف تجرأ وكتبها وقدمها لشخصي؟ لم أعرفه إلا بعد تقاعده. الرابط الوحيد الذي يجمعنا هو تاريخ الميلاد، فنحن من جيل قالب تاريخ (1/7) الشهير. حيث اشتروا، وبذكاء، راحة بالهم بوضع تاريخ ميلاد جيل بأكمله في هذا القالب الموحد المشهور، ساد جهل جيل بيوم وشهر ميلاده، المؤلف وشخصي أحدهم، وضع يوحي ويقول.

n وقفت أمام كلمات إهدائه طويلا، متسائلا عن حياتي وحياة مؤلف هذا الكتاب، أبحرت في ملكوت التخيلات واستحضار الماضي. مقبول أن يهديني معلومات عن حياته، لكن كيف يهديني جزءا من حياتي في كتابه؟ كبرت في (نافوخي) كما يقول الإخوة أهل مصر حفظهم الله. كيف عرف بمسيرة حياتي ولم أقض أكثر من ساعة طوال حياتي في الحديث معه؟ كان حديثا متقطعا منذ مقابلتي له في بيت صديقنا المشترك بالرياض، عاصمة المجد الذي نعيش.

n ونتيجة لإيحاءات عنوان هذا الكتاب: (الإبحار في عين العاصفة)، وجهت حديثي نحو عاصفة الفوضى التي يراها كل من يزور مكتبي، سواء أثناء العمل أو مكتبي الخاص في بيتي. لكني أراها فوضى فاتنة تمدني بالطاقة والنشوة، أراها نافرة الملامح ومبهجة، أراها تكوين تشكل وتكون مع الأيام، كل شيء معلوم لشخصي في مكانه. ماذا يمكن أن يحوي مكتب أكاديمي مهنته القراءة والكتابة، وتجميع الكتب والمراجع، وأوراق الطلاب ونتاجهم في ملفات عشوائية، تزيد من مهابة تكوين المكتب، وتضفي عليه شرعية إطلاق الأحكام؟

n لاحظوا أنني أعطيت مكتبي مساحة أكبر. كل هذا بسبب عنوان الكتاب وإهداء مؤلفه، مكتبي في مظهره العام مريح لشخصي، يحملني إلى مرحلة التحفيز والإلهام والهيام والاستمتاع، أصبح كالبستان به ومعه أقطف ثمار عقلي من أفكار وتجليات، أكتب ما أشاء بنجاح ولذة، جعلتني في وضع وكأني أقطف ثمار شجر لا أراه، لكن أحس بوجوده، مع هذه الحالة وصل الأمر بمن يشاهد هذا المكتب أن يصيح قائلا: تحت أي ورقة تعيش جنية الكتابة.

n في غيابي منعت عامل النظافة من دخول مكتبي في الجامعة، ومنعت أهل بيتي من دخول مكتبي الخاص في البيت أيضا. تنظيفه ممنوع في غيابي. تخطي ممراته الضيقة من فوق أكوام الأوراق والكتب يجب أن يكون بحذر وفي وجودي للإرشاد لكيفية التحرك. يرونها عاصفة فوضى وأراها عكس ذلك. كل شيء مرتب، استدعيه وقت ما أشاء دون عناء. إنها جزء من عاصفة الحياة التي أعيش. هل هذا من الحياة التي قصدها المؤلف في إهدائه؟ أم أن كتابه يشبه حال مكتبي؟ ويستمر الحديث بعنوان آخر عبر رحلة طويلة مع هذا الكتاب ومؤلفه.

@DrAlghamdiMH