أ.د. هاني القحطاني

عرف تاريخ البشرية نقلات نوعية منذ اكتشاف النار إلى تطويع النحاس إلى اختراع العجلة إلى تدجين الحيوان، واكتشاف الزراعة، فالاستقرار في مجتمعات بشرية، إلى الثورة الصناعية وما بعدها وصولا إلى العصر الحاضر. وخلال مراحل تطور حياة الإنسان على الأرض كانت هذه الاكتشافات والنقلات النوعية تؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على أسلوب البشر.

تتعدد مسميات العصر الذي نعيشه، فمنهم مَنْ يسميه عصر الثورة الرقمية وتدفق المعلومات، ومنهم مَنْ يسميه عصر الشبكة العنكبوتية، أو عصر المعلوماتية أو عصر الإنترنت، أو غير ذلك من التسميات. كل ما يجمع بينها هو قدرة تلك الرقائق المجهرية الصغيرة (التي لا يتجاوز حجم الواحدة منها أظفور الأصبع الواحدة، والمخزنة في أجهزة الحواسيب الإلكترونية) على تخزين المعلومات وسرعة استجلابها ونشرها ليس فقط على أجهزة الحاسوب الضخمة الثابتة أو المحمولة (اللابتوب) بل على الجوالات.

الجوال، ذلك الجهاز الصغير الذي بدأ كهاتف متنقل، وانتهى به الأمر الآن قرينا للإنسان كظله لا يفارقه. الموضوع هنا ليس رفاهية أو هواية، بل أصبح ضرورة حتمية للعيش. هل كان هذا يدور بخلد ستيف جوبز عندما فكر بجوال أبل ومن قبله صناع الهواتف الخلوية؟. هذا الارتباط الحميم بين الناس وتلك القطعة المعدنية البراقة، التي تخفي شرائح السيلكون ودوائر حاسوبية في غاية الدقة بداخلها، قد نقل حياة الفرد وبالتالي المجتمع وحوله من كائن اجتماعي إلى كائن فردي. جبارة هي التحولات، التي أحدثها الجوال في حياة البشر وهي لا تخفى على أحد. غير أن تأثيرها البعيد المدى لم يعرف كاملا بعد. الخشية كل الخشية أن ما بدأ كوسلية اتصال صوتي قد أصبح حاجزا بين الفرد ومجتمعه من جهة، ونافذة خفية للفرد ليعيش في عوالم وهمية افتراضية. وفي كلتا الحالتين أصبح هناك إنسان مختلف عن إنسان ما قبل الجوال.

«الإنسان ذو البعد الواحد» عنوان كتاب للمفكر الألماني هربرت ماركيز وقد صدرت أول نسخة منه عام 1964م، وفيه يحلل الكاتب سلوك المجتمعات الغربية في ضوء استسلامها الطوعي لما أفرزته آليات العيش في ظل أنظمة اقتصادية رأسمالية في الغرب أو بدرجات متفاوتة من الاشتراكية في الشرق. غير أن ما أتى في هذا الكتاب ليس سوى قطرة في بركة من الماء. فإنسان اليوم المنجذب لجواله يتطابق في عنوانه مع محتوى الكتاب، لدرجة بدا معها ذلك الكتاب، الذي يعد من ضمن أهم مائة كتاب في القرن العشرين وكأنه تجسيد حي لواقع اليوم.

غير أن تأثير الجوال في حياة الإنسان المعاصر ليس سوى مظهر لمجتمع ذي بعد واحد. إنه عنوان عريض لخضوع الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها للتقنية. لقد حول الجوال والروبوتات الآلية في المصانع وفي كل مكان والكاميرات الرقمية والحساسات، التي لا ترى في الأماكن العامة الإنسان إلى تابع لها بدلا من أن يكون مسيطرا عليها. لقد حلت التقنية محل الإنسان. هنا تبادلت أدوار القيادة، فبدلا من أن يكون الإنسان قائدا للتقنية أصبح تابعا لها.

هذا تحول نوعي في تاريخ البشرية مازال في مهده، وهو تحول ينذر بتغيرات جذرية في نظرة الإنسان تجاه ذاته وحياته ومجتمعه، وهو يأتي على حساب القيم الإنسانية، التي راكمتها الشعوب في علاقاتها ببعض. التقنية خير بلا شك، وهي ميزة ينفرد بها الجنس البشري كمخلوق ميزه الله عن بقية مخلوقاته لكن المبالغة في طلبها والاعتماد عليها في كل صغيرة وكبيرة قد يحيل البشر أنفسهم إلى آلات. وهذا ما لا يجب السماح به ناهيك عن مجرد تصوره.

hanih@iau.edu.sa