غنية الغافري

تذوقت ذات يوم عصير من فئة الغازيات المخلوطة، الذي يحمل اسما أعجميا ضمن سلسلة مسميات لاختراعات من هذا النوع المهم أن طعم هذا العصير كأنه دواء مع تفوق طفيف بالمرارة! ولأن بعض الشباب مهوسون في الاصطفاف في طوابير الهبات! فهم لا يستشعرون طعم مرارة هذا المشروب بينما يعزفون عن الترياق، الذي يجلب العافية! وبّخت ابني على هذا التبذير حتى تمنى لو أنه رماه في سلة المهملات على أن يكرمني به، وكعادة الأمهات اللاتي يشعرن دائما بأنهن مصنع الحكمة ومنبع حسن التدبير تواريت عنه حتى لا يكتشف أني اشتريت قطعة ملابس من أحد المتاجر الإلكترونية، فلم تكن إلا صورة زينتها العارضة (المودل) بينما حقيقتها تجلب الكدر وتندرج تحت الحكمة المصرية القديمة «ضاعت فلوسك ياصابر»! وإن كانت فلوس صابر، التي ينتظرها أكثر بكثير إلا أن مبدأ «البعزقة»، التي تعني «فرّقه وبدده في غير موضعه» حاضرة بقوة في مجتمعنا الخليجي كبارا وصغارا، ولم يسلم منها ذوو الدخل المحدود، الذين يظنون أن هذا الوصف لا ينطبق عليهم حين يوفرون كل ما يشتهون في حال اليسر والعسر بدليل أني شاهدتُ إحدى العاملات، التي يُحسن إليها مَنْ حولها من الموظفين، وهي تمتلك آخر إصدار من الجوال تجدده كل مرة ولعلها من رافعي شعار «أحبي نفسك وأسعدي نفسك»! بينما جارتنا ـ مغتربة من جنسية عربية ـ جوالها «أبو كشاف»! لكنها بعد أن أنهت تعاقدها كانت قد اشترت عمارتين، ودرست أبناءها في جامعات عالمية خاصة، فيما كانت تضحك علينا ونحن «طائرون في العجة»، وتردد «إنتو مش بتحوشو ليه!» وطريقة التحويش لدى جارتنا أنها تعيش عيشة هادئة بلا ضجيج، فالمسكن مسكن الزُّهاد يخلو من التحف والأثاث الفاره، وملابسها نظيفة جميلة بلا تواقيع عالمية، والأبناء حفظوا رسالة والديهما وأعانوهما عليها؛ لأن رسالتها تقول إن وجودها في الغربة محطة عابرة تستقر بعدها وتنطلق نحو رفاهية مادية حقيقية لا تحتاج بعدها لتمويل شخصي أو قرض عقاري!

نسيت أن أخبركم بأنها وجدت في بلدنا فرصا متعددة تجلب الرزق، لم نرها نحن وتقول «دي بلدكم فيها خير كتير»، ولعل مَنْ يسمع قصة جاراتنا العربية، يقول «يوه اسم الله علينا»! بينما لا يُسّمي على حاله والديون والأقساط تحيط به من كل حدب وصوب. المفارقة أن السعادة والابتسامة والطرفة حاضرة لدى جارتنا المقتصدة أكثر منا نحن المبعزقين، بل وتزكي مالها بالتطوع في تحفيظ القرآن لأبناء الجيران.

ربما هي القناعة والرضا، التي تلبستها بينما تلبسنا «الزهق» والتقليد والمجاراة! ومن هذا المنطلق، فإن تُجّارنا ومشاهيرنا لا يجدون مشقة في تصريف بضائعهم، فنحن زبائن طيبون نشتري و«نكّود» ولدينا علاقة وطيدة مع سلة المهملات وننتظر يوما في السنة نسميه يوم الغربلة نخرج فيه ما كنزناه طول العام مع حلطمة استنكارية تقول: (أنا ليش شريت هذا؟)، فترد الحاوية التي امتلأت بأموالنا بلغة الشامت «اللي عنده قرش محيره يشتري حمام ويطيره»! ولأننا لسنا مع البعزقة ولا عبودية اكتناز المال ندعو للموازنة بين الدخل والإنفاق وحل الصراع القائم بين رغباتنا، وبين واقعنا حتى لا نصل لمرحلة الندم، ولنتذكر حديث المصطفى الكريم: (لا تزول يوم القيامة قدما عبد حتى يسأل عن أربع وذكر منها عن ماله من أين أخذه وفيما أنفقه).

قفلة:

يقول الشاعر: دبّر العيش بالقليل ليبقى

فبقاء القليل بالتدبير

لا تبذر وإن ملكت كثيرا

فزوال الكثير بالتبذيرا

@ghannia