أحمد الحسين

الوطن مفهوم يخالط الوجدان، والشعور به مستدام، وتزدان بذكره تعابير الكلمات، ونضد المقالات، ونظم الأشعار. الوطن يتلألأ بالدلالات، وهو أقرب للماء والهواء حين يدخل الجوف فيهدأ. وحبّه حالة عقلانية وجدانية تصبَّ بها الخلجات والنفحات.

الشعراء كثر ما سكبوا رقيق ألفاظهم فيه، وتبارى عندهم وصف حنينه وتلمس آلامه وأوجاعه والوقوف على منازله وأطلاله، حتى التغزل فيه لم يخل من مكابدة النوى والارتحال والحرمان.

حبُّ الوطن غرائزي فطري يكبر مع الإنسان منذ النشأة والمربى، وما تجذر من الآباء والأجداد، وما ترابط من علائق ذكريات، وأخاديد حكايات.

بلد صحبت به الشبيبة والصبا

ولبست ثوب العيش وهو جديد

فإذا تمثل في الضمير رأيته

وعليه أغصان الشباب تميد

كلمة وطن تدق شعورا منبريا يترافق معها،

ويؤثر بالسامع ويسكن القلوب، ويتجلى بمفهوم الوطنية وهي الارتباط العاطفي الذي فيه حبّ وانتماء لا ينقطع، وتتسلق حولها معاني الشوق والحنين والفخر.

الوطن عند العرب مغزاه تمرحل في الدلالة عبر الزمن، فكان مبتدئها انتماء بذكر المنازل والقبيلة، واستهل هذا بأشعارهم في التوطن والارتحال، وتعلقت فيه ذكريات الأطلال.

الجاحظ المتُوفي عام 868م في رسالته الحنين إلى الأوطان يقول؛ كانت العرب إذا غزَتْ، أو سافرت إلى مكان بعيد عن أرضهم، حملتْ معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه شوقا وحنينا وانتماء لوطنهم.

حينما ظهر الإسلام اصبح كلُّ مكان يتوطن به الإنسان هو وطنا له.

المعري المتُوفي عام 1057م ساق بشعره الحنين لمفهوم الوطن، فأضاف معنى لم يرتبط بالمنشأ فقط أو التعلق بذكريات الصبا والشباب وذكر الغربة، إنما نشد وطناً لا ظلم أو ملل فيه؛

ملَ المُقامُ فكم أعاشِرُ أمةً

أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها

فعدَوا مصالحَها وهم أجراؤها

هكذا مع الزمن اعتلى شعور الحس بالوطن حتى يُوصف حامله وطنيا وهو يأبى خضوع وطنه للاستعمار، أو يقبل جرحا نازفا له. وكذلك من لجأ للهجرة والاغتراب مجبورا وهو يمني نفسه بالعودة لملاذ وطنه. وكأنه يقول؛

العين بعد فراقها الوطنا

لا ساكنا ألفت ولا سكنا

ريانة بالدمع، أقلقها

ألا تحس كرى ولا وسنا

كانت ترى في كل سانحة

حسناً، وباتت لا ترى حسنا

وعصرنا نال الوطن نصيبه في الشعر الحديث لذكر قضاياه، كما في قول الشاعر أمل دُنْقُل حين لامس الحزن والأسى والضعف الوطن، فيقول في قصيدة ؛ الأرض ... والجرح الذي لا ينفتح؛

الأرض ما زالت، بأذنيها دم من قرطها المنزوع، قهقهة اللّصوص تسوق هودجها.. وتتركها بلا زاد

من أحب وطنه

فلا غرو أن تجده يحتفي بالجذور ويلُوح بصداها كقول أحدهم؛

أرض تنطرح بأحضان نجد

تنداح فيها أثير آباء وأجداد

وتراه كذلك يندب محامد تفيض لها خواطر، وتعرش أحاسيس تُداعب نواميس فطرته؛

مثل زقزقة طير على سدرِهِا تُراقص السامع.

الوطن لا تنتهي حكايته، يزهو بتنوع ساكنيه وأراضيه، والوله له لا يفارق أو يبرح؛

بنفسيَ تلك الأرض ما أطيبَ الربا

وما أحسنَ المصطافَ والمتربعا

وطني فيه تولّهي وذكرى توحيد المملكة العربية السعودية لها خلجات تحتضنها النفس مثل صورة في مرآة تتجلى في الباطن، وجلاء هذه المرآة تُظهر نصوع الصورة، ومن فقد المشاعر لوطنه انطبع إعتام يطمس صورة الخلجات. وبهذا المعنى نرى من انتمى لوطنه يرى صورة متجلية على مرآة ذاته.

اللهم احفظ الوطن وأهله وولاته وجنده على الثغور، وأصلح حال الأمة العربية والإسلامية من الكيد، وأنعم بالسلام على العالم أجمع.

@alhussainahmed0