رائد البغلي

في كثير من الأحيان، يكتب الكاتب بغزارة ليُفلِتَ من قبضة معاناته، فيكتشف في نهاية الأمر أنه لم يفعل، فيعاود الكَرَّة مُجدَّدًا لنفس السبب وبنفس الأمل، لذلك المعاناة تُوَلِّدُ رغبةً جارفةً في الكتابة تحديدًا.

هناك مَن يمتنع عن كتابة موضوعٍ ما لاعتقاده بأنه باتَ مُستهلَكًا ولن يضيف عليه شيئًا، وهناك مَن يكتب عن نفس الموضوع ويخلق مساحات جديدة ويلامس زوايا مختلفة.

المعنى: ‏الإبداع هو إضافة الكاتب لبصمته الشخصية الجديدة على موضوع مُستَهلَك، وهذا ما يجعل سؤال: ‏«مَن سيكتب الموضوع؟» أهم أحيانًا من سؤال: ‏«ما هو الموضوع؟».

الكتابة‬ المُنتظمة تمرينٌ شاقٌّ، لِذَا تحتاجُ إلى نَفَسٍ طويلٍ ولياقةٍ عالية لمزاولتها، وأجمل أنماط الكتابة‬ هو ذلك الذي يستعرض من خلاله الكاتب موضوعاته بعباراتٍ سلِسةٍ وأسلوبٍ رشيق، فتصبح الكتابة هي السهل المُمتنع.

‏اللغة المُقعَّرة والغليظة لا تخلو من الافتعال والتكلّف، وقد لا تخدم الموضوع بالشكل المطلوب، ولا تُوصِل رأي كاتبه كما ينبغي، فـ «المتعة» لا تقل أهمية عن ‏«الفائدة» في قراءة العمل الأدبي، بل قد تكون أكثر أهمية منها، لأنها مَن سيقود القارئ لمنطقة «الفائدة» في العمل، بينما لو غابت «المتعة»، وحلّ الفتور والملل سيُعرِض القارئ عن العمل متجاهلًا حتى ‏«الفائدة»، التي بين دفّتيه.

أحيانًا يتوافر الجوّ الملائم للكتابة ولا تتواجد الفكرة الجيّدة، وأحيانًا تتواجد الفكرة الجيّدة للكتابة ولا يتوافر الجوّ الملائم، وأحيانًا يتوافر الجوّ الملائم والفكرة الجيدة لكن لا يتوافر المزاج الرائق للكتابة.

الخلاصة: أن تكتب موضوعًا بديعًا، فهذا يحتاج منك الكثير من الجهد والوقت.

الكثير يُروّج لنظرية أن الكتابة‬ بلغة سليمة خالية من الأخطاء هي مسؤولية المثقفين والمتخصصين في اللغة، وما عداهم فلا تثريب عليهم، وأصحاب هذه النظرية آمنوا بها ويسعون جاهدين لإيمان غيرهم بها كي يرفعوا الحرج عن أنفسهم من جانب، وليخرجوا من دائرة المسؤولية من جانبٍ آخر، بينما في -واقع الأمر- الكتابة بلغة سليمة هي مسؤولية كل شخص يكتب أو يُدوّن، وإذا ساوره شك في أي مفردة ينوي كتابتها فيُفترض أن يتحرى صحتها، وسُبُل البحث والتحرِّي الحديثة كثيرة ويسيرة.

‏الكتابة بالأخطاء هي تنازل جسيم في حق لغتنا الأصيلة، وفي نفس الوقت تأصيل وتطبيع لهذه الأخطاء، التي قد تنصهر في اللغة في يومٍ ما، وتصبح جزءًا منها.

ليس بالضرورة أن يكون الكاتب لغويًا، فالكتابة مرحلة والتدقيق والمراجعة مرحلة أخرى، لكن هذا لا ينفي مسؤوليته في مراجعة ما يكتب مع أطراف أخرى يثق بها.

‏الأخطاء الإملائية واللغوية عامةً ممجوجة من الشخص العادي، فضلًا عن الكاتب.

الاقتراب من الدراما بحسّ وخُطى الكاتب يخلق شيئًا من الوَجَل، لما قد تُحدثه من تأثيرات وتغيّرات على العمل الأدبي، فبعض الأعمال السينمائية لم ترتقِ لمستوى الرواية الأصلية، التي أُقتُبس منها العمل، ولم تلامس سقف تطلّعات كاتبها، لكن على الضفة الأخرى: صنعتْ السينما أعمالاً رائعةً من روايات أقل من عادية، وأذهلتْ كُتَّابها.

مهمة الروائي ليست مُجرَّد نقلٍ لأحداث أو استعراضٍ لأرقامٍ وتواريخ، بل جذب القارئ من ساعده، والسفر به إلى مسرح الرواية، للانغماس في تفاصيل الزمان وملامح المكان، والاندماج في الشخوص والركض في دهاليز الرواية والوقوف على أدقّ أحداثها من خلال تصوير سردي إبداعي دقيق، بلغة رشيقة فاتنة.

القُرّاء الذين يعتبرون قراءة الرواية إهدارا للوقت أعتقد جازمًا بأنه لم تقع بين أياديهم رواية ذات قيمة عالية سردًا ومضمونًا، وهم يشابهون بشكلٍ أو بآخر الكُتَّاب، الذين يعتبرون كتابة الرواية أسهل مسارات الكتابة، لاعتقادهم بأنها مفتوحة وبلا قواعد لأنهم لم يقرؤوا في تقنيات السرد والرواية. بل إنَّ بعض الأعمال الروائية تستحق القراءة لأكثر من مرة، فقراءة واحدة لها غير عادلة، ولا تحيط بها، وهناك دلالات كثيرة يمكن للقارئ أن يقيس من خلالها فائدة وواقعية العمل الأدبي، منها: الزمان، المكان، الأحداث، الشخوص، المعلومات.

إلى قرّاء الرواية، الذين يتواثبون من صفحة لأخرى، ويلهثون بين فصلٍ وآخر بُغية بلوغ النهاية:

‏«المتعة تكمن في الرحلة، وليس في الوصول».

@raedaalbaghli