محمد الحرز

حدث استثنائي ما يجري حاليا في معرض الرياض للكتاب، حدث بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وبكل ما تحمله من دلالة. فالعراق هو ضيف شرف هذه الدورة، وهذا ما أعطاه الاستثناء والتميز. وهذا ما أعطاه بعده السياسي أيضا للمنطقة، فالعراق والسعودية هما الخيط الواصل بين طرفي الحضارة الإسلامية تاريخيا، وكونهما كذلك، فكل مسعى غايته إبقاء الخيط مشدودا من طرفيه، وقائما لا ينقطع، هو في حد ذاته حدث استثنائي.

وما يضفي عليه أهمية قصوى أيضا بجانب استثنائيته كونه يأتي في سياق الحوار الثقافي ضمن فعاليات معرض الكتاب. فالثقافة بكل أبعادها ومجالاتها المختلفة رهان حقيقي، يمكن اختباره بنجاح، إذا ما توافرت الإرادة والرغبة الصادقة في استثمار القوة الناعمة للمجتمع والثقافة، لا سيما وأن تأسيس أغلب الدول العربية تاريخيا - كما أشار وزير الثقافة العراقي الدكتور الباحث حسن ناظم في محاضرته بالمعرض - قامت بمعزل عن تأثير الثقافة والمجتمع، وبغياب شبه تام عن مساهماتهما في بناء مؤسسات الدولة.

فإذا كانت التجارب السياسية في المنطقة لم تبن شرعيتها إلا على الانقلابات العسكرية، والإيديولوجيات الثورية العابرة للحدود، ولم تأخذ بزمام تعديل أخطائها، لا بالإصلاح السياسي الحقيقي، أو بالمشروع الثقافي الاجتماعي الذي يفضي بها إلى امتلاك شرعية راسخة الجذور للدولة. فإنه من غير المعقول، أن نظل نكرر تجارب الفشل، ونعيد استنساخها منذ أن استعرنا مفهوم الدولة من الفكر السياسي الغربي.

لذلك الحلقة المفقودة في الوعي السياسي العربي في اللحظة الراهنة هو بناء شرعيتها على الثقافة.

لكن بأي معنى يكون ذلك؟

وزير الثقافة في محاضرته آنفة الذكر - وسيكون لي عودة إليها في مقال لاحق - يشدد على أن من المهام الأساسية لوزارة الثقافة على طريق بناء مؤسسات الدولة وتعزيزها هو إدارة التنوع الاجتماعي الثقافي القائم على الطائفة والعرق والمذهب - بالخصوص العراق - بما يساهم في التحول الديمقراطي في البلد، وليس الاقتصار على تبني توجه فئوي يلغي مثل هذا التنوع، كما حدث سابقا في زمن الديكتاتوريات.

قد يكون كلام الوزير فيه من التفاؤل الشيء الكثير كونه المسؤول الأول على رأس الوزارة. وكون العراق بلد الأعراق والحضارات والعمق التاريخي الثقافي، وقد يكون هذا التفاؤل له ما يبرره، فكل تجربة ديمقراطية هي نتيجة سلسلة من الأخطاء وقعت فيها عند الممارسة، ثم حسنت من أدائها. لكن التفاؤل - بالنسبة لي على الأقل كمراقب خارجي - يصطدم بعقبات، لا أعلم كيف يستطيع العراق ومعه أيضا شعوب المنطقة تجاوزها؟!

فإذا كان الهدف والغاية للوزارة في مهمتها من إدارة التنوع هو المساهمة في بناء مؤسسات الدولة، فإن اختلال عنصر واحد في سبيل هذا البناء كفيل بسقوطه، فاحتكار العنف باعتباره عنصرا محوريا بيد الدولة حصرا، في تصوري لم يعد كذلك إزاء سيطرة الميليشيات ذات التوجه العقائدي الماضوي الذي يشرف عليه الحرس الثوري الإيراني، فهؤلاء استثمروا البسطاء من الناس في ارتباطهم الوثيق بالماضي، وأطلقوا من ثم كل أحمال التاريخ في الحاضر، وهذا في عمقه استثمار ثقافي تاريخي بالدرجة الأولى، وإن كان يتخفى ويتذرع بمسببات سياسية آنية. وهذا ما يجعل الرهان على الثقافة في صناعة مجتمع مدني، ينهض بمؤسسات الدولة صعبا وشاقا في حالة العراق، وأقل في حالات أخرى من الدول العربية. لكنه بالتأكيد ليس صعبا على العموم.

لذلك وضمن هذا السياق، معارض الكتب والفعاليات المصاحبة، والاستضافات المتبادلة بين الدول العربية في إطار هذه الأنشطة، ستؤدي وظيفتها بلا شك، وإن كانت بصورة بطيئة، وغير مرئية. لكن بالنهاية هذا طبيعة السياقات الثقافية الاجتماعية في تأثر بعضها ببعض.

@MohammedAlHerz