نعم يا خسارة، فمحمد كان من الأكفاء الذين يملكون طاقة حاضرة ووجوها ناضرة وروحا إيجابية عالية، فقد كانت تحركه روح المسؤولية تجاه نجاح المؤسسة ورفعة مكانتها، لذا فإن حدوده لم تقف يوما عند أسوار المبنى وأوقات العمل، وكان يبذل بإحسان ممدود وإتقان مشهود بما يملك من خبرة تراكمية ومكتسبات مهارية ومخازن معرفية من أجل تحقيق الأهداف المؤسسية، وذلك لأنه أحب ما كان يعمل وعمل ما كان يحب. ولكن يا خسارة... لقد رحل.
قصة محمد ليست حالة فريدة، أو حتى وحيدة، بل مشهد يتكرر بين الفينة والأخرى لدى شريحة من المؤسسات، والتي تئن من تحدي تسرب الكفاءات، وأوجاعه التي قد تمتد طويلا لأنها كابرت ولم تؤمن بأن البقاء يجب أن يكون للأفضل، بل ولم تقف جديا على دراسة هذه المشكلة لتجتث جذورها من باطن الأعماق وتوقف نزيف المواهب البشرية المتدفق. ومن خلال رحلتي العملية الطويلة مع منظمات وبصفات مختلفة في القطاعات الثلاثة، فقد شهدت العديد من حكايات التسرب الوظيفي، لذا فإن حديثي اليوم يسلط الكشاف على أبرز ما كان خلفها من مبررات دفعت أصحابها لاتخاذ ذلك القرار البائس، بوضع ورقة الوداع على طاولة رؤسائهم.
أما أبرزها فكان الأسلوب الإداري للرؤساء، فالبعض منهم تشعر أنه يحمل لواء «لن تستطيع معي صبرا»، بين تصيد للهفوات، ومركزية في القرارات، وتمييز يرتكز على العلاقات، وفرط لاستخدام السلطة، في ظل ضعف المهارات القيادية، وضبابية التعليمات التوجيهية. وأما الآخر والمنعقد به، فهو النظام الإداري في المنشأة والذي لا يضع الموظف «الإنسان» ومنافعه على سلم الأولويات، بالإضافة لضعف تأطير مهام العمل مما يربك الأداء ويزيد من العشوائية التي قد تتعاظم مع طبيعة الأعمال الشاقة. وما فاقم ضراوة الأمر لدى البعض منهم، هو بيئة العمل غير الجاذبة، والتي تترنح بين مؤامرات وصراعات، وخلافات ونزاعات، كان أبطالها أقرانهم وزملاءهم، وأخرى كان خلفها في المؤسسة بعض رؤسائهم. كما أن الرواتب والمزايا كانت من الأسباب الرئيسة التي دفعت عددا منهم للرحيل، فبعضها لا يتكافأ ولا يتوازن مع المؤهلات والخبرة، أو مع حجم المهام وطبيعة الوظيفة، أو حتى مع ثراء المنشأة وحجم عوائدها. وعلى ضفاف آخر، فقد كان منهم من يشتكي قلة أنشطة التطوير المهني، وصعوبة التنبؤ بالمسار والمستقبل الوظيفي، ومحدودية فرص الترقية في ظل غياب المعايير المؤسسية، وحضور منهجية صلة الرحم والمحسوبية. وذلك معطوف على ضعف الحوافز والمكافآت، وكذلك افتقار التقدير المعنوي الذي يعد وقودا مهما لدفع مكائن البذل لتقدم أفضل ما لديها، مما صعد إحباطهم، وهوى على الأرض بعزائمهم.
وفي إطار متصل، وقفت على المبادئ الخمسة التي اشتركت فيها المنظمات الفائزة بأفضل أماكن العمل في أمريكا لعام 2021 وفق ما أعلنت Glassdoor، حيث أوضحت أن تلك المؤسسات آمنت أن الموظفين مهمون، ويشعرون بالتقدير، ويمكن لهم النمو، وأنهم يسمعون، وكذلك القادة أيضا مهمون. وحري بالمؤسسات أن تستفيد من هذه النماذج ونهجها القيادي، للمحافظة على الكوادر ورفع ولائهم في بيئة صحية مولدة للشغف والدافعية.
ختاما أقول، لا أشد من ألم جرح موظف أعطى مؤسسته بروحه وقلبه وعقله وجسده ووقته، وفي محطة ما من رحلة التفاني بشغف، خذلته، لم تقدره، لم تنصفه، فضلت عليه، نكست عليه. وهذا سيقود بلا ريب لأعظم خسارة قد تواجهها أية منشأة، وهي خسارة رأس المالي البشري وذلك بمغادرة الكفاءات المهنية، وخروج المواهب البشرية، ثم تعود بعدها وتندب «يا خسارة فقد رحل محمد»... لذا «فاعتبروا يا أولي الألباب».
@azizmahb
قصة محمد ليست حالة فريدة، أو حتى وحيدة، بل مشهد يتكرر بين الفينة والأخرى لدى شريحة من المؤسسات، والتي تئن من تحدي تسرب الكفاءات، وأوجاعه التي قد تمتد طويلا لأنها كابرت ولم تؤمن بأن البقاء يجب أن يكون للأفضل، بل ولم تقف جديا على دراسة هذه المشكلة لتجتث جذورها من باطن الأعماق وتوقف نزيف المواهب البشرية المتدفق. ومن خلال رحلتي العملية الطويلة مع منظمات وبصفات مختلفة في القطاعات الثلاثة، فقد شهدت العديد من حكايات التسرب الوظيفي، لذا فإن حديثي اليوم يسلط الكشاف على أبرز ما كان خلفها من مبررات دفعت أصحابها لاتخاذ ذلك القرار البائس، بوضع ورقة الوداع على طاولة رؤسائهم.
أما أبرزها فكان الأسلوب الإداري للرؤساء، فالبعض منهم تشعر أنه يحمل لواء «لن تستطيع معي صبرا»، بين تصيد للهفوات، ومركزية في القرارات، وتمييز يرتكز على العلاقات، وفرط لاستخدام السلطة، في ظل ضعف المهارات القيادية، وضبابية التعليمات التوجيهية. وأما الآخر والمنعقد به، فهو النظام الإداري في المنشأة والذي لا يضع الموظف «الإنسان» ومنافعه على سلم الأولويات، بالإضافة لضعف تأطير مهام العمل مما يربك الأداء ويزيد من العشوائية التي قد تتعاظم مع طبيعة الأعمال الشاقة. وما فاقم ضراوة الأمر لدى البعض منهم، هو بيئة العمل غير الجاذبة، والتي تترنح بين مؤامرات وصراعات، وخلافات ونزاعات، كان أبطالها أقرانهم وزملاءهم، وأخرى كان خلفها في المؤسسة بعض رؤسائهم. كما أن الرواتب والمزايا كانت من الأسباب الرئيسة التي دفعت عددا منهم للرحيل، فبعضها لا يتكافأ ولا يتوازن مع المؤهلات والخبرة، أو مع حجم المهام وطبيعة الوظيفة، أو حتى مع ثراء المنشأة وحجم عوائدها. وعلى ضفاف آخر، فقد كان منهم من يشتكي قلة أنشطة التطوير المهني، وصعوبة التنبؤ بالمسار والمستقبل الوظيفي، ومحدودية فرص الترقية في ظل غياب المعايير المؤسسية، وحضور منهجية صلة الرحم والمحسوبية. وذلك معطوف على ضعف الحوافز والمكافآت، وكذلك افتقار التقدير المعنوي الذي يعد وقودا مهما لدفع مكائن البذل لتقدم أفضل ما لديها، مما صعد إحباطهم، وهوى على الأرض بعزائمهم.
وفي إطار متصل، وقفت على المبادئ الخمسة التي اشتركت فيها المنظمات الفائزة بأفضل أماكن العمل في أمريكا لعام 2021 وفق ما أعلنت Glassdoor، حيث أوضحت أن تلك المؤسسات آمنت أن الموظفين مهمون، ويشعرون بالتقدير، ويمكن لهم النمو، وأنهم يسمعون، وكذلك القادة أيضا مهمون. وحري بالمؤسسات أن تستفيد من هذه النماذج ونهجها القيادي، للمحافظة على الكوادر ورفع ولائهم في بيئة صحية مولدة للشغف والدافعية.
ختاما أقول، لا أشد من ألم جرح موظف أعطى مؤسسته بروحه وقلبه وعقله وجسده ووقته، وفي محطة ما من رحلة التفاني بشغف، خذلته، لم تقدره، لم تنصفه، فضلت عليه، نكست عليه. وهذا سيقود بلا ريب لأعظم خسارة قد تواجهها أية منشأة، وهي خسارة رأس المالي البشري وذلك بمغادرة الكفاءات المهنية، وخروج المواهب البشرية، ثم تعود بعدها وتندب «يا خسارة فقد رحل محمد»... لذا «فاعتبروا يا أولي الألباب».
@azizmahb