أ.د. هاني القحطاني

عقار وعمار كلمتان متقاربتان لغويا، بعيدتان في المعنى بعد الثرى عن الثريا. ورد في معجم لسان العرب في مادة عقر: لغويا العقر يعني العقم، والعاقر من الرمل ما لا ينبت، والعقار: المنزل والضيعة، وأصله من عقرت به إذا أطلت حبسه، كأنك عقرت راحلته فبقي لا يقدر على البراح. وهناك إسهاب بليغ في شرح الكلمة وتحولاتها ليس هنا تفصيله، لكنه يؤكد عبقرية اللغة ودورها في إعطاء كل كلمة معناها، الذي يفسر كثيرا من معانيها وتحولاتها ومآلاتها. يقابل كلمة العقار في الإنجليزية المصطلح (Real-Estate) وهو مكون من كلمتين: الأولى تعني «الحقيقي»، والثانية تعني «الوضع، أو المكانة، أو الحالة»، وكأن الحال مرتبط بامتلاك شيء ذي قيمة، وهو ما نسميه في ثقافتنا بالعقار. وارتباط اللفظ بالمعنى راسخ لدى الإنجليز، حيث كان كبار ملاك الأراضي في الريف البريطاني هم أعضاء البرلمان. هذه عبقرية اللغة. ولنا عودة لها في مقالات قادمة إن شاء الله.

إذا كان هذا هو جذر الكلمة أو ما يمكن تسميته بالـ (دي إن أيه) لها، فلماذا ارتبط العقار بنشاط نقيض تماما وهو البناء والإعمار.؟ لماذا اصبح العقار (وهو لغويا يعني العقر والحبس) مرادفا للبنيان؟. إنها مفارقة لغوية حري بالنحاة واللغويين أن يسبروا غورها.

الحديث عن العقار حديث ذو شجون لا يخلو منه أي مجلس، أو مكتب، أو محادثات، أو مراسلات هاتفية. لقد تجذر العقار كمفهوم وصناعة في صميم ثقافة المجتمع، وأصبح العقار النشاط الاقتصادي الأول لدى الكثير من الناس. ولكن هل العقار مورد اقتصادي؟ هل الاتجار بالأرض وما عليها وإعادة تدويرها من مالك لآخر يعود بالفائدة على المجتمع؟. هل يصاحب العقار توليد وظائف، أو إنتاج سلع، أو تحريك للقوى العاملة في المجتمع؟. هل العقار قوة اقتصادية تنموية أم مثبط لها؟. تختلف الإجابة عن السؤال من مجتمع لآخر تبعا لمدى التنوع الاقتصادي السائد في المجتمع. فالنشاط العقاري في الدول الغربية على سبيل المثال هو نشاط اقتصادي كأي نشاط اقتصادي آخر. أما في المجتمعات الوظيفية، التي تعتمد في جزء كبير منها على ناتج الأرض، فإن الاتجار بالأرض وما عليها تابع لنمط الاقتصاد الريعي، لا على اقتصاد ديناميكي منتج.

«العقار يمرض لكنه لا يموت»، عبارة شهيرة تلخص النظرة تجاه الأرض وما عليها، وتصور الناس لمفهوم ملكية الأرض، وموقفهم تجاهها وتجاه التنمية العمرانية بشكل عام. هكذا تحولت الأرض وما عليها كحاضنة للأعمال ومن قيمة تجارية منتجة رابحة إلى كيان تجريدي يعاني من المرض.

هذا عن العقار وماذا عن العمار؟. ومرة أخرى تختلف الإجابة عن مفهوم العمار، وقيمته، نظرة الناس له من مكان لآخر، ومن بلد لآخر. فالعمار في الدول ذوات الاقتصادات المنتجة والمتعددة مستقل تماما عن المضاربات العقارية. العمارة في المجتمعات متعددة الاقتصادات فن راق إنتاجا ومنتجا. في المقابل، فإن العمار في المجتمعات، التي تسود فيها تجارة العقار أصبح ملحقا بالعقار وتابعا له. البناء في هذه الاقتصادات القائمة أحيانا على المضاربات العقارية هو فقط عربون ملكية يقاس باعتبارات عقارية تماما بعيدة كل البعد عن القيم الجمالية، أو الوظيفية، التي يتميز بها البنيان أيا كان. هكذا تتحول المفاهيم شكلا ومضمونا وآليات إنتاجها من مجتمع لآخر. وهناك من الشواهد والتفاصيل في هذه الجوانب ما يغني عن الذكر.

إن عقر الأرض وحبسها (كما يستدل من التفسير اللغوي للمصطلح والممارسات العقارية على أرض الواقع) أحد أبرز مظاهر الخلل في التنمية العمرانية، وهو ذو أثر سلبي على الاقتصاد إلا أنه بالإمكان تماما أن يكون العقار مفهوما وممارسة رافعا للتنمية لا حابسا لها. لقد آن الأوان لكي تنتقل صناعة العقار من مجرد حبس للأرض إلى إطلاق لها في أرض الله الواسعة.

Hanih@iau.edu.sa